المحكمة الدستورية تفتح أزمة داخل الأزمة أسامة رمضاني بينما الأزمة الحكومية تراوح مكانها تذكرت الأغلبية البرلمانية أن لها في الرفوف مشروع إرساء محكمة دستورية ظل في سبات منذ خريف 2014 رغم أنه كان الحجر الأساس للانتقال الديمقراطي. أزمات متداخلة يبدو صانعو القرار السياسي في تونس وكأنهم في سباق نحو من يزيد في تعقيد الأوضاع في البلاد أكثر من غيره. ومن جراء هذه التعقيدات لم يعد فهم الوضع متيسرا للمواطن العادي المنشغل بتدهور مستوى معيشته وتفاقم آثار الجائحة على حياته اليومية. وأصبحت برامج القنوات الإذاعية والتلفزيونية غير كافية لتوضيح ما يحدث. بل إن كل تونسي أصبح اليوم يحتاج إلى مجلس يضم جهابذة القانون الدستوري لتفسير القرارات وردود الفعل المتنافرة الصادرة عن مؤسسات الدولة والتي تتلاحق من حواليه كالأمواج المتلاطمة. تعزز فقط انعدام الثقة بين المواطن وساسة بلاده وزاد الشعور بأن لكل واحد من هؤلاء شيطانا في جيبه، كما يقول المثل التونسي. حصيلة الأمر أضحت في نهاية المطاف أزمات متداخلة على شاكلة المسرحية داخل المسرحية كما كان يتخيلها المبدع شكسبير. أمام الأزمة الأصلية، أزمة انهيار التوازنات المالية، روج البعض أن الحل يكمن في تعديل وزاري يأتي بالكفاءات إلى دفة السلطة. وكان بعدها تصديق البرلمان على تعديل وزاري على خلفية وعود بإصلاحات ترمم السدود قبل أن يجرف الطوفان الجميع نتيجة العجز المتفاقم لميزانية الدولة وانعكاساته الاجتماعية الواسعة. أدى الأمر فقط إلى تعديل حكومي مع تأجيل التنفيذ، بعد أن فشلت مدارس الفقه الدستوري كلها في إيجاد مخرج أو حيلة تسمح للوزراء الجدد بتأدية القسم الدستوري الذي رفض الموافقة عليه رئيس الجمهورية نتيجة ما رآه من نقاط خلل قانونية ودستورية في التعديل وما أحسه من مناورات سياسية تجاوزته خلال مساعي هشام المشيشي لتشكيل الحكومة. وبينما كانت الأزمة الحكومية تراوح مكانها تذكرت الأغلبية البرلمانية أن لها في الرفوف مشروع إرساء محكمة دستورية ظل في سبات غريب منذ خريف 2014، رغم أنه كان ينظر إليه في وقت ما على أنه الحجر الأساس للانتقال الديمقراطي. لا يهتم الكثيرون اليوم بالبحث عمن كان وراء تعطيل إنشاء المحكمة الدستورية فالجميع يعرف أو يتصور أنه يعرف السبب. يتابعون الآن ما تلا تحرك الأغلبية البرلمانية بعدما انتبهت منذ أسابيع فقط إلى ضرورة إنشاء هذه الهيئة القضائية العليا. انتبهت إلى أنه لا حسم في دستورية القوانين والمعاهدات ولا تعديل في الدستور.. ولا تفكير في إزاحة الرئيس من مهامه بدون المحكمة الدستورية. توكلت الأغلبية التشريعية على الله واستحثت مسار اختيار أعضاء المحكمة الاثني عشر. وأدخلت لهذا الغرض تنقيحات في فصول القانون الأساسي المنظم لاختيار أعضاء هذه المحكمة، بعد أن كانت اكتفت منذ 2016 باختيار قاضية واحدة فقط لاحتلال مقعد في المحكمة. وأرسل رئيس البرلمان القانون المنقح لرئيس الدولة لختمه. ومثلما كان متوقعا من بعض الخبراء رفض الرئيس التوقيع على التعديلات على أساس أن عدم إرساء المحكمة الدستورية لحد الآن هو خرق للدستور الذي كان نص على إنشاء المحكمة بعد سنة على الأكثر من انتخابات 2014، وهو تأخير رأى الرئيس أنه لا يستطيع أن يتحمل وزره. وقال قيس سعيد في خطاب أمام ضريح الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة يوم 6 أبريل إن “التأويلات لتبرير تجاوز هذه الآجال غير مقبولة لأن النصّ الدستوري واضح ولأن الخرق يبقى خرقا مهما طال الزمن ولا يمكن أن يُبرّر بخرق مثله”. وتبعا لذلك أعاد رئيس الجمهورية مشروع القانون إلى رئيس البرلمان حتى يمر بقراءة ثانية. ومن المقرر أن يصوت البرلمان مجددا عليه لكن ليس هناك ضمان أن يختم الرئيس مشروع القانون حتى بعد موافقة ثلاثة أخماس النواب عليه. مرة أخرى تدفع التطورات المواطن البسيط إلى معاجم القانون وبرامج التلفزيون باحثا عن إجابات تطمئنه على أن هناك مخرجا من هذه “الأزمة داخل الأزمة”. ويقول أستاذ القانون الدستوري هيكل بن محفوظ وغيره من الخبراء إن مصير مشروع القانون في الواقع رهين قرار سياسي. وهو نفس الرأي الذي كان أجمع عليه الفقهاء والبسطاء على حد السواء بعد أزمة التشكيل الحكومي: مشاكل البلاد وبداية حلها رهينة قرار النخبة السياسية الحاكمة وليس بيد عتاة المؤوّلين للدستور. ولكن هذه النخبة التي لم تتوافق بعد على مجرد تنظيم حوار يجمع كل الفرقاء السياسيين لا تجتمع تقريبا على شيء، مما يعني أنه من المحتمل أن تكون المحكمة لسنوات قادمة موضوعا إضافيا للنزاع بين السلطات الثلاث في الدولة. وغياب الحماس للحوار والتواصل بين الفاعلين السياسيين قد يعني أن المحكمة الدستورية، إن شاءت لها الأقدار أن تنشأ، سوف تجد نفسها غارقة في تجاذبات لا مخرج منها وفي ممانعة الكثيرين في القبول بآرائها. ويخشى الخبراء أن تغرق المحكمة في دعاوىٍ لا تنتهي نتيجة تأخر المشرع عن تنقيح القوانين بأنواعها وهي قوانين بقيت في معظمها دون مراجعة رغم شبهة مخالفتها للدستور وتخلفها عن مسيرة العصر. كما يخشى البعض إضافة إلى ذلك من وجود هنات في القانون الأساسي المنظم للمحكمة ومشمولات هذه الهيئة القضائية العليا ذاتها، فالمحكمة الدستورية ليست على سبيل المثال مؤهلة للحسم في الخلافات الناجمة عن تأويل أي سلطة لصلاحياتها حتى وإن كانت هذه الخلافات مصدر نزاع مع سلطة أخرى مثل النزاع الحالي بين رأسي السلطة التنفيذية حول تأدية الوزراء لليمين الدستورية. وعلاوة على ذلك، فإنه ليس هناك صوت مرجّح بين أعضاء المحكمة وإن كان عددهم زوجيا. وبشكل غير مباشر سلطت الأزمات السياسية المتلاحقة، وإن كان بعد فوات الأوان، الضوء على نقاط ضعف وغموض في الدستور قد تحتاج إلى تنقيحات يخشى البعض أن لا تتيسر إلا عندما تهدأ خلافات السياسيين بما يسمح بقيام المحكمة الدستورية. وقد يكون ذلك بعد أعوام من الآن. وهذه حلقة مفرغة أخرى تشير إلى عمق المأزق الحالي. وكما قال أحد حكماء فيسبوك “من حفر دستورا لأخيه وقع فيه”. رئيس تحرير العرب ويكلي
مشاركة :