تُجمع كثير من الدراسات على وجود علاقة متينة وعميقة، بين اللغة بوصفها وعاء وأداة للتعبير في آنٍ واحد، وبين طرائق التفكير وزوايا النظر المغايرة والمؤدية إلى مهارات التفكير الناقد وحلّ المشكلات، ناهيك عمّا تكنّه اللغة بوصفها قاموسا تداوليا من قوى داخلية تشعّ جمالا وفنونا تعبيرية واتصالية، خاصة فيما يتعلق بالبيان المفضي إلى الذكاء اللغوي المشتمل على القدرة على الإقناع، أو ما يسمى بهيمنة اللغة وسطوتها، وهذا كلّه لن يتأتى للفرد على شكل جرعة واحدة يتلقاها ثم يبدأ في توظيفها. فالأمر ليس سحرا ولا حالة إيحائية، بل هو أمر منوط بالتربية اللغوية التي يتلقاها المرء منذ بواكير طفولته الأولى، عبر مساقات متنوعة درستها النظريات وأثبتت صحتها ونجاعة أثرها. فهل عُنينا بوصفنا آباء في الدرجة الأولى بأن يتلقى أطفالنا تربية لغوية تربطهم بالمدركات الحياتية، ثم بالمجردات المعنوية والتخيّلية؟ وهل عملت مؤسساتنا التعليمية في قاعات الدرس بدءا من مرحلة الطفولة المبكرة «الروضة» على أن يكون الاكتساب اللغوي ممنهجا وداعما لعمليات التفكير؟ لا نستطيع بالطبع نفي جهود تعمل على هذا، لكنها قد تكون فردية محدودة النطاق عند بعض من فهموا ذلكم التعالق بين اللغة ومسارات التفكير ومداراته. إن نظريات الاكتساب اللغوي بالفطرة تقرّ -بالتجربة المباشرة- بأن الأطفال يمكنهم تخزين وأرشفة المفردات منذ الشهر السادس لولادتهم، وأن سن ما قبل المدرسة هي الفترة الأكثر خصوبة في الاكتساب والتلقي اللغوي، حتى أن بعض الأطفال يمكنهم تعلم لغتين إضافة إلى لغتهم الأم باقتدار وجودة أو الفصحى والعامية، في وقت واحد، ولقد حدثني -ذات لقاء- عبدالله الدنان صاحب نظرية تعليم الفصحى بالفطرة، أنه جرّب أو طبّق ذلك مع ابنه، فصار الطفل آنذاك يتحدث مع والده بلغة عربية فصيحة، ومع والدته أو معلماته بلهجة محكية دارجة، والتوصية هنا هي أن يعمل الآباء والأمهات على مخاطبة أبنائهم بلغة سليمة متسقة العبارة والدلالة، فإن لم يتمكنوا، فليعرضوهم إلى محتويات رصينة رافدة لقدرتهم على الفهم والتحليل وإبداء الرأي، وهي كذلك مضيفة إلى قاموسهم اللغوي الوظيفي ما يعينهم على التعبير عن ذواتهم، وعن كل ما يحيط بهم من مواقف وأحداث ومتغيرات، كما أن المخزون اللغوي الثرّ يدعم عمليات التفكير، ثم إن على المحاضن التعليمية دورا كبيرا في إحاطة الطالب بهذا الفضاء اللغوي داخل قاعة الدرس وخارجها، وهي تربية لا تقل ألبتة عن التربية السلوكية، إن لم تفُقْها وتصبّْ في معينِها.
مشاركة :