اللعبة الممتعة في ساعي بريد نيرودا

  • 9/21/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

كثيراً ما يصف الكتاب والروائيون كتابة الرواية بأنها لعبة ممتعة. نعم لعبة ممتعة، لكن كيف يمكن للقارئ تصديق هذا أو حمله على محمل الجد وهو يرى هذه الأطنان من الورق، حيث لا يمكن أن تكون رواية بهذا الحجم وتكون لعبة بنفس الوقت، لا بد أن هناك إساءة فهم، الكتب بهذا الحجم لا بد أن تكون جادة. هذا ربما ما يفكر به القارئ وهو يقرأ مثل هذا الكلام على ألسنة الروائيين دون أن يختبر ذلك اختبارا حقيقياً. ليتساءل ما الرواية؟ هل هي لعبة ممتعة بما قد يوحي بعبثيتها وعدم انضباطها أم عمل جاد بما قد يوحي برتابته وثقله؟ "ساعي بريد نيرودا" للروائي التشيلي أنطونيو سكارميتا تعفي القارئ من التفكير المطول بهذا الموضوع والبحث عن إجابة لهذا التساؤل، حيث تقول له أثناء قراءتها إن الرواية لعبة ممتعة وعمل جاد بنفس الوقت. المتعة التي تشعر بها وأنت تحل مسألة حسابية رياضية قريبة جداً من هذه المتعة التي تشعر بها وأنت تحلل عملاً فنياً وتفك أسراره؛ لأن الكاتب يقترب كثيراً من هذا المنطق وهو يوزع شخصياته وأدواته على طاولة الرواية ويدع للقارئ متعة اكتشافها وحلها واحدا تلو الآخر كما كان له متعة إبرامها وكتابتها. فيعتمد الروائي كثيرا على المفارقة والأضداد والشخصيات المتناقضة ليعطي القضية أبعادا مختلفة لا تخلو من روح الدعابة والسخرية فيرى القضية أو الشخصية من أكثر من اتجاه، ويعطي الأحداث تصاعداً مثيرًا. هذا ما فعله سكارميتا وهو يضع شخصية الشاعر التشيلي المعروف "بابلو نيرودا" بكل ما تحمله هذه الشخصية من أهمية فكرية وأدبية ووطنية وتاريخية إلى جوار شخصية ساعي البريد "ماريو خيمينث" البسيطة، فيضع بهذه المفارقة شخصية عظيمة وحقيقية مثل "بابلو نيرودا" أمام شخصية بسيطة وهامشية ومتخيلة مثل "ماريو خيمينث" ساعي البريد. لم يكن اختيار ساعي البريد اختياراً عابثاً أو يخلو من المنطقية والحكمة بل هو اختيار دقيق ومبرر؛ لأنه اختيار أن يلج عالم هذا الشاعر العالمي في بيئته الفقيرة وشبه المهجورة "إيسلا نيجرا" من خلال البريد والرسائل التي تصله من مختلف أنحاء العالم، فكان اختياراً بارعاً وذكياً لا يخلو من مفارقة ساخرة وممتعة بنفس الوقت. المفارقة الثانية كانت باختياره شخصية أخرى أيضا إلى جوار نيرودا وهي شخصية المرأة أم الفتاة "بياتريث غونثاليث" وهي السيدة ذات الخلفية الدينية المحافظة وصاحبة الرأي المعارض للشعر ولتوجهات نيرودا السياسية، وقد نجح سكارميتا أيضا من خلال اختياره لهذه الشخصية بخلق مفارقة ساحرة لا تخلو من سخرية وجمال. خاصة حين تحذر ابنتها من مصاحبة "ماريو خيمينث" رفيق الشاعر محذرة لها من أثر الشعر بقولها: "ليس هناك مخدر أسوأ من الكلام. إنه يجعل نادلة حانة ريفية تشعر كأنها أميرة فينيسية. وبعد ذلك حين تأتي ساعة الحقيقة، لحظة العودة إلى الواقع، تكتشفين أن الكلمات لم تكن إلا شيكا بلا رصيد". لم يعتمد سكارميتا على هذا فقط وإنما لم ينس أن يعمق الشخصيات ويربطها بالواقع السياسي في تشيلي مستغلاً بذلك شخصية "بابلو نيرودا" لكشف ذلك الواقع. وقد ذكر أنطونيو سكارميتا مرة في أحد حواراته أن من يريد أن يرى أثر الانقلاب الذي حدث في تشيلي عام 1973م على الناس في بلدي فليقرأ الفصل الأخير من روايتي "ساعي بريد نيرودا". يذكر أن هذه الرواية من إصدارات دار "مسكيلياني" عام 2011م وبترجمة المترجم المعروف صالح علماني.

مشاركة :