حتى لا تخرج الكويت بنصر أمرّ من طعم الهزيمة علي قاسم جائحة كورونا وفرت الذريعة وكانت الشماعة التي استخدمتها الحكومة الكويتية لإنهاء عقود عشرات الآلاف من العاملين النسبة الأكبر منهم من المصريين ولم تميز بين المنتجين وغيرهم فالجميع بات في خانة واحدة. طرد 70 في المئة من السكان لن يحل الأزمة عندما واجهت دول العالم مشاكل اقتصادية بسبب من جائحة كورونا، لم يكن بين خياراتها لحل المشكلة إبعاد الأجانب عن أراضيها. أقصى ما فكرت فيه الحد من وصول أفواج جديدة من الوافدين، والتحكم بحركة المرور عبر المطارات والموانئ ونقاط العبور حرصا على الأرواح. ولم تدفع الأزمة الاقتصادية، التي تلت أزمة النفط وأزمة الطاقة في سبعينات القرن الماضي، الحكومة الألمانية للتفكير بالتخلص من 9 ملايين من حاملي الجنسية التركية يعيشون فوق أراضيها، ساهم بعضهم في إعادة بناء مدن ألمانيا التي تركتها الحرب العالمية الثانية ركاما، وقد بلغوا سن التقاعد. لسبب بسيط جدا، أن هؤلاء الذين ساهموا بإعادة الإعمار سيساهم أبناؤهم وأحفادهم مستقبلا في عملية التنمية. وفي الولايات المتحدة لم يقبل الأميركيون سياسة الرئيس السابق دونالد ترامب المتعلقة بالهجرة، واستنكروا بناء أسوار تفصل الولايات المتحدة عن المكسيك، وكانت هذه السياسة سببا من بين أسباب أخرى استخدمها الديمقراطيون لإقصائه عن البيت الأبيض. ونجحوا في ذلك. المهاجرون هم السبب في تألق الحضارات، ولم يكونوا يوما سببا في اندثار الدول. الأمثلة على ذلك كثيرة، ومن بينها الكويت (حتى هذا اليوم). نقول حتى هذا اليوم، بعد أن تزايدت في الكويت الإساءات الموجهة ضد العمال الأجانب على صفحات التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام التقليدية. بدأت بدعوة وجهتها الممثلة حياة الفهد للحكومة لرمي الوافدين في الصحراء. قالت الفنانة المعروفة بـ”أم سوزان” في مداخلة هاتفية مع برنامج تلفزيوني على فضائية كويتية “لقد مللنا (…) لو نمرض لا توجد مستشفيات لاستقبالنا. بلدانهم لا تريدهم، فلماذا نتكفل بهم”؟ الشكر لله أن الفنانة الكويتية “الكبيرة والقديرة” التي أثارت في الـ21 من مارس 2020 عاصفة من الاحتجاج لا تسيّر شؤون الكويت. ما من شك أن الجائحة ألحقت كبير الأذى بالناس في مختلف دول العالم، ولم تكن الدول الكبرى استثناء. وواجه الملايين من العمال الأجانب في دول الخليج حالة من عدم اليقين، في ظل إجراءات غلق شاملة وعدم دفع بعض المشغلين للرواتب أو النظر في إمكانية صرف موظفين، في إطار الحد من انتشار فايروس كورونا المستجد. ولكن ما من دولة اقترحت رمي الوافدين في الصحراء. الحكومة الكويتية لم تعمل بالطبع بنصيحة أم سوزان. لكن، بعد مرور عام على الاقتراح، الذي استنكره كثيرون، يسلّط استمرار الجائحة الضوء على مجموعات كبيرة من العمال الذين بات البعض يعتبرهم عبئا على الاقتصاد، بعد أن ألغى الانكماش الكثير من الوظائف. وفي يونيو الماضي، قال رئيس الوزراء الشيخ صباح الخالد الصباح إنّ الكويتيين يمثّلون 30 في المئة فقط من إجمالي السكان البالغ عددهم 4.8 مليون نسمة، معتبرا أنّ “الوضع المثالي للتركيبة السكانية أن تشكل نسبة الكويتيين 70 في المئة”. وأضاف أن “الكويت ستواجه تحديا في المستقبل لمعالجة الخلل بالتركيبة السكانية”، مشددا على أنّ معالجة هذا الخلل يتم بتولّي “الكويتيين جمع الأعمال في كافة المجالات”. وكانت دولة الكويت أطلقت بداية أبريل 2020 حملة باسم “غادِر بأمان”، لترحيل الوافدين المخالفين لقانون الإقامة، بهدف “تعديل التركيبة السكانية”. وبدلا من أن تكافئ عمالا أفنوا حياتهم في أشغال مرهقة، تقرر ليس فقط الاستغناء عنهم، بل رميهم بعيدا عن وطن عاشوا فيه جل سنين عمرهم. وفرت جائحة كورونا الذريعة، وكانت الشماعة التي استخدمتها الحكومة الكويتية لإنهاء عقود عشرات الآلاف، النسبة الأكبر منها من العمال المصريين. ولم تميز المطاردة بين المنتجين وغيرهم، فالجميع بات في خانة واحدة هي خانة “ارحل”. وسيضطر عشرات الآلاف ممن تجاوزت أعمارهم الستين عاما إلى مغادرة الدولة الغنية بالنفط، بموجب القوانين الجديدة. يحدث هذا في وقت زادت فيه دول خليجية، في مقدمتها الإمارات والسعودية، من تقديم الإغراءات للوافدين، رغم أن التحديات الاقتصادية التي تواجهها تلك الدول تشبه الضغوط التي تواجه الكويت، حيث رفعت سقف تسهيلات استقطابهم، بمنح بعضهم مزايا استثنائية للإقامة، وللعمل التجاري أيضاً. ولعل من أبرز المبادرات، تلك التي أطلقتها الإمارات حيث سمحت للمتقاعدين المقيمين باستمرار العيش فيها، وهو البرنامج الأول من نوعه على مستوى المنطقة للوافدين الذين تزيد أعمارهم عن 55 عاماً. تستطيع حكومة الكويت إنهاء عقود العمال وترحيلهم، بجيوب خاوية، لا شيء يمنعها من ذلك. ولكن من حق العمال المطرودين (حتى وإن أطلقت عليهم سلطات الكويت مرحلين) الذين أمضى الكثير منهم جلّ سنين حياته هناك، أن يشعروا بالظلم. خاصة في ظل حملة كراهية تشن على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي ضد الأجانب. عند الحديث عن أزمة اقتصادية لا يمكن إلقاء اللوم على العمال الوافدين. هم ليسوا سببا في الأزمة، بل هم ضحايا من ضحايا الأزمة. هم ضحايا لسياسات اقتصادية فاشلة عجزت عن خلق فرص تنمية حقيقية مكتفية باقتصاد ريعي تدره آبار النفط. لقد اكتفت حكومات الكويت باستقطاب عمالة تشغلها في قطاع الخدمات والبناء؛ عمال اضطرتهم ظروفهم للقبول بأعمال دنيا شاقة يأنف الكويتيون عن القيام بها. حتى المشروع الثقافي الذي تبنته دولة الكويت، وكانت من ثماره العشرات من المطبوعات المصقولة، لم يكن سوى أداة للتباهي والتفاخر. الثقافة التي لا تنير العقول ليست سوى أسفار محمولة على الظهر. والدليل الخواء الثقافي والفكري الذي آل إليه هذا المشروع اليوم. قرار الطرد، إلى جانب كونه عنصريا، خاطئ أيضا. تبعاته على المدى الطويل مضرة بالاقتصاد الكويتي. طرد 70 في المئة من السكان لن يحل الأزمة التي تواجه الكويت، بل سيزيد من عمق الأزمة. وبينما وعت دول خليجية هذه الحقيقة وواجهتها بمزيد من الانفتاح على العالم، تواجه الكويت أزمتها بمزيد من الانغلاق. فشلت الكويت اقتصاديا مرتين. في المرة الأولى لأنها لم تبن للمستقبل. وفي الثانية لأنها لم تسع لدمج العمالة الوافدة لتصبح جزءا من النسيج الاجتماعي. الانسحاب من المعركة مهزوما، أصعب من كسب المعركة. المهزوم يرتكب أخطاء مكلفة تزيد من حجم خسائره. هذه حقيقة يعرفها القادة العسكريون جيدا. المعركة الاقتصادية لا تختلف كثيرا عن المعركة الحربية. من يتشبث بالمعركة لأنه لا يقبل بالهزيمة يعرض نفسه والذين معه للفناء. الشيء نفسه ينطبق على الاقتصاد. من لا يقبل الخسارة لا يحقق الربح. بدأنا بتوجيه الشكر لله لأن “أم سوزان” لا تدير شأن الكويت. ونختتم طالبين من الله أن يلهم القائمين على تسيير الحكم فيها النظر إلى الأسباب الحقيقية للأزمة، التي لم تكن يوما بسبب من العمالة الوافدة، أو بسبب الجائحة، حتى لا تخرج الكويت من معركتها الاقتصادية بربح هو أمرّ من طعم الهزيمة. ربح لن يكسبها في المستقبل سوى مدن خاوية يواجه فيها، من لم يغادر في اتجاه أوروبا، شوارع خاوية تعصف بها رياح رملية وقيظ يذيب إسفلت الشوارع. كاتب سوري مقيم في تونس
مشاركة :