فكرة الأمة أو الأممية -أيديولوجيا- روجت لها جماعة الإخوان المسلمين، فيما كتبه منظروها وما يردده خطباؤهم ووعاظهم على مدى عقود منذ تأسيس الجماعة 1928م، ورأوا أن الأمة لن تتحقق إلا بعودة الخلافة، بما يحمله هذا المصطلح من رمزية. تاريخ الخلافة تاريخ بشري، له ما له وعليه ما عليه، مزيج من البياض والسواد، ولو أن سوادَه قد غَلَبَ بياضَه إلا من عهود قليلة تكاد تُعد على أصابع اليد الواحدة، حاله حال الأمم الأخرى في العصور السابقة، وما كتبه المؤرخون المسلمون شاهد. تقديم هذا التاريخ كنموذج مثالي وكأنما الناس في تلك العهود ملائكة «لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون» أمرٌ ينافيه الواقع وخاصية البشر الموسومة بالقصور والخطأ والنسيان. ما درسناه في كل مراحل دراستنا عن تاريخنا كان انتقائيا، الثقافة الإخوانية وما روجته التيارات والحركات المنتمية لها ركزت على هذا التقديم الملائكي لتاريخنا، وحَمَلَ لواء هذا الفكر الدعاة والوعاظ والكتاب المنتمون لهذه الجماعة والمتماهون مع فكرها أو المتعاطفون معه لترسيخه والإيمان به، ما أبعدنا عن الواقع المعاش، وقد رأت النموذج في الماضي بإعادة إنتاجه وتدويره بمختلف الوسائل. لقد تعبت رقابنا من الالتفات الدائم للخلف دون النظر للأمام والتطلع للمستقبل. في الفكر السياسي الحديث، أصبحت كل دولة أمة بذاتها وانضوت جميعها تحت منظمة اسمها «هيئة الأمم المتحدة» وباتت الدولة القطرية الوطنية هي الحقيقة والواقع. الثقافة الإخوانية المسافرة للماضي لاستجلابه روجت أيضا دعما لفكرتها أن اتفاقية «سايكس بيكو» هي المسؤولة عن تقسيم العالم العربي بعد سقوط الدولة العثمانية -الخلافة المزعومة- رغم أن سلاطين تلك الدولة لم يؤدِّ أي واحد منهم فريضة حجه، الركن الخامس من أركان الإسلام. وحول «سايكس بيكو» ينهض سؤال: هل تقسيم أوروبا إلى 44 دولة قطرية، وآسيا إلى ما يقارب الـ50 دولة قطرية، وأفريقيا حوالي 60 دولة، كان بفعل «سايكس بيكو» آخر؟ مغالطات في نظري تم الترويج لها لتعميقها وترسيخها في أذهان الناس. التيارات الإسلامية التي ارتبطت بجماعة الإخوان على امتداد الوطن العربي، عاشت وما زالت في واقع افتراضي، واقع إحيائي لن يتحقق ذلك، أن التاريخ البشري يمضي للأمام لا يعود للخلف. الحضارة الإسلامية لم تكن حضارة تنمية، كما يقول المفكر السعودي إبراهيم البليهي، ويكرر هذا القول لإزالة الغشاوة التي رانت على عقولنا لوقت طويل. الحضارة الحديثة التي قادها الغرب بعد الثورة الصناعية ومنجزاتها التي ما زالت تتوالى، مما سهَّل الحياة، هي من حققت التنمية على كل الأصعدة، وتغيرت أساليب الحياة نحو الأفضل، بما لا يقارن مع الواقع القديم والحضارات الأخرى بما فيها الحضارة الإسلامية. تسول الماضي وتوسله لتحسين الحاضر أعُدُّهُ مرضا عضالا، نسأل الله الشفاء منه. أتحدث هنا عن الدنيا التي نعيشها، والواقع الذي نحياه، الاتجاه للماضي والحنين إليه آزره بعض أقوال للسابقين، عفا الله عنهم، مثل «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها» وقولهم «الخير كل الخير في اتباع من سلف، والشر كل الشر في ابتداع من خلف» هذه الأقوال وغيرها تتجه نحو الدين -في نظري- لكنها انسحبت على الدنيا ومتغيراتها والدليل قائمة المحرمات الطويلة لكل جديد، بدءا من تحريم طباعة القرآن الكريم في القرن السابع عشر الميلادي في الأستانة عاصمة الخلافة، وتحريم الوضوء من الحنفية في مصر، وقائمة المحرمات عندنا في السعودية من عهد المؤسس الملك عبدالعزيز، حتى عهد قريب، جوال الكاميرا، وقبلها البرقية والسيارة وتعليم المرأة والراديو والتلفزيون وقائمة طويلة جدا. لكن هذه الفتاوى لم تصمد أمام واقع الحياة الجديد، تلك المقولات مع تكرارها وترديدها أخذت مشروعية، وتلقفها العامة بتسليم، واتسع نطاق البدعة والتبديع في أمور دنيوية ومشتركات إنسانية. التنويريون في العالم العربي منذ بدايات النهضة وحتى الآن، الذين نادوا بالاقتباس من الحضارة الغربية بما يحقق النماء والتطور دنيويا، تعرضوا للتشويه والتحقير، ووصل الأمر إلى حد التكفير، والشواهد أكثر من أن تُحصر، وبات اسم التنوير واشتقاقاته موضوع ارتياب. بِتْنا نتكاثر لتَلِد أمهاتُنا آباءَنا وأجدادَنا، كما قال عبدالله القصيمي ذات يوم عفا الله عنه وعنا.
مشاركة :