* قبل ما يقرب من قرن من الزمن -ومع نهاية الحقبة العثمانية- وفي عهد أمير المدينة المنورة الفريق فخري باشا، والذي قاده إحساسه بالثورة العربية إلى جعل المدينة منطقة عسكرية، ممّا ترتب عليه امتلاء المدينة بالسلاح، ولم يسلم من ذلك الحرم النبوي الشريف، ومن أجل هدفه الحربي قام بإيصال سكة حديد الحجاز، والتي أُنشئت عام 1326هـ، -وربطت بين المدينة وبلاد الشام- إلى شارع العينية، والمؤدّي إلى الحرم الشريف، وفي خطوة لاحقة قام كما تروي المصادر، ومن أهمها الرواية الشفهية، قام هذا القائد العسكري بحجز المواد التي يستخدمها أهالي البلدة الطاهرة في طعامهم من تمر، وأرز، وحنطة، وجمعها في مستودعات الجيش، وعمّت المجاعة جميع نواحي المدينة، وقد حدَّثني الوالد -رحمه الله- أن قرص العيش كان يتم شراؤه بما مقداره «مجيدي»، وهي العملة التركية -آنذاك- من التكية المصرية، والتي كانت تقوم على مدخل «شارع العنبرية»، وكان الناس إضافة إلى الكمية المحدودة من هذا الخبز يعتمدون في وجباتهم اليومية على حبّات من التمر، وقادته مواجهته مع الحكام السابقين الأشراف الذين أعلنوا ثورتهم العربية من مكة المكرمة عام 1334هـ، إلى إجلاء سكان المدينة عنها، وكان الناس يخيّرون في البداية بين البلدان التي يريدون السفر إليها، ثم صار السفر يتم بالإكراه، والقسر، والتهديد، ورحل الأهالي تاركين بيوتهم وموارد رزقهم إلى بلاد الشام، وتركيا، إضافة إلى مكة المكرمة والتي اختارتها أسرتنا، وكانت -كما علمته من الوالد رحمه الله- من آخر الأسر التي غادرت مكرهة، إضافة إلى ما لاقته من عنت ومشقة؛ لأنها سلكت طريق البحر من ينبع إلى رابغ، وذلك لأن الطريق البري كان يشهد مناوشات خطيرة بين الأطراف المتصارعة، ويذكر المؤرّخ السيد علي حافظ أن الحصار بلغ ذروته سنة 1336- 1337هـ، ويشير الأستاذ الباحث أحمد أمين مرشد بأن الحصار بدأ في النصف الثاني من عام 1334هـ، كما يضيف المؤرّخ حافظ في كتابه «فصول من تاريخ المدينة» بأنه لم يعد سكان المدينة الراحلين عنها إلاّ في النصف الثاني من عام 1337هـ، ويتزامن ذلك مع تسليم المدينة لحكم الشريف، كما تم اعتقال فخري باشا في بئر درويش في ربيع الآخر 1337هـ، وأن عدد الأسر التي عادت بعد عملية التهجير والشتات لا يتجاوز 15 ألف نسمة، من أصل 80 ألف نسمة هُجِّروا عنها في ظروف صعبة وغير إنسانية، وقد خلّد الشعر ذلك الحدث، حيث أوحى المنظر الكئيب للتهجير للشاعر والفقيه محمد العمري الواسطي المتوفى سنة 1365هـ - 1945م، بقصيدته الرائعة والتي يُصوِّر فيها مشاعره الوطنية الصادقة، حيث أنشد: دارَ الهدى خفَّ منكِ الأهل والسكنُ واستفرغت جهدها في ربعكِ المحَنُ عفا المصلّى إلى سلعٍ إلي جثَمٍ والحَرَّتان ومرأى أرضِها الحسَن أقوى العقيق إلى الجَمّا إلى أحدٍ إلى قباءَ التي يحيا بها الشجن منازلٌ شبَّ فيها الدين واكتملت آياته فاستعارت نوره المدن * ولم يستتب الأمن في الأرض المباركة إلاَّ بعد أن سلمت المدينة في طمأنينة وسلام وأمان للملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- بعد حصار دام عشرة أشهر، وذلك بعد أن حمل أحد رجالات المدينة -مصطفى عبدالعال الصعيدي- رسالة من الشريف شحات (حاكم المدينة) -آنذاك- للملك عبدالعزيز في بحرة، كما يذكر ذلك المؤرّخ أمين الريحاني في كتابه: «تاريخ نجد الحديث»، المجلد الخامس، ط 1980م، ص 419- 420، واتّساقًا مع منزلة المدينة، فقد قام المؤسس -رحمه الله- بإرسال ابنه محمد، والذي تسلّمها من قائدها العسكري عبدالمجيد باشا، ومن معه من رجال المدينة في 19 جمادى الأولى 1344هـ، وأضحى أول أمير لها في العهد السعودي الزاهر. * اليوم.. تشهد بلاد الشام التي استقبلت المهجّرين من سَفَر بَلْك الأول بكل أريحية وترحاب تشهد سَفَر بَلْك آخر، بل إنه أشد قسوة ومرارة وتنكيلاً، حيث تتقاطر الجموع -نساءً وشيوخًا وصغارًا ورجالاً- طارقة أبواب وأسوار البلاد الأوروبية التي تُعدُّ من وجهة نظر الكثير الحلم الموعود. ويتم ذلك في مشهد مؤلم وغير إنساني، ويبدو أن هناك أكثر من فخري سوف تسائلهم صفحات التاريخ ورواته وشهوده عمّا حلّ ببلاد الشام من دمار، وفي مقدمتهم بشار، وبوتين، وزعماء العصابات الإرهابية التي اتخذت ظلمًا وافتراءً من الدِّين ستارًا لها من أمثال داعش والنصرة، وإنها لتسفك الدماء، وتتّخذ من صغار السن وقودًا لمعركة ظالمة وحاقدة، وعجبي من أولئك الذين يدافعون عن الطغاة والجبابرة.
مشاركة :