عبيدلي العبيدلي لكن مفهوم دونو للوسطية، لا يمتلك القوة التفسيرية التي يعتقد أنها بحوزته. فمعظم المشاكل التي يصفها دونو بوضوح هي نتاج أخطاء النظام النيو ليبرالي، أو بشكل أساسي خطأ الرأسمالية نفسها. ولا يجد القارئ إجابة على تساؤل من نوع هل هذه الفئة من ذوي التفكير والسلوك المتوسطين هي الجانية، عندما تفشل الشرطة في التحقيق في جرائم الأثرياء والمتصلين بالسياسة، أو عندما تقوم هيئة الإيرادات الكندية بمراجعة حسابات عمال الخدمة بدلاً من ملاحقة المتهربين الضريبيين الرئيسيين؟ في الأصل، هذه الأشياء هي أعراض لنظام اقتصادي غير متكافئ بشكل صارخ، والذي يركز السلطة والثروة في أيدي من يمارسون بوعي لعبة نشر الوعي الوسطي في صفوف قوى الإنتاج. وينجح الكاتب في توصيل فكرته عندما يستعين بأمثلة من صلب ممارسات أفراد ومؤسسات المجتمع الكندي. حينها يشد المؤلف انتباه القارئ نحو أحداث أو قضايا كندية محلية محددة. يروي على سبيل المثال قصة كارثة القطار على خط سكة حديد مدينة Lac-Mégantic. ويشرح دونو كيف نجحت السلطة في رشوة العديد من الفرق الفنية المشهورة التي أقامت الحفلات الصاخبة، تحت ستار جمع التبرعات لضحايا الحادثة، في حين كانت ترمي، وهو ما نجحت في تحقيقه، إلى امتصاص النقمة، وتحويل الأنظار نحو قضايا أخرى. نجحت السطات الكندية الحاكمة حينها بالتعاون مع "المؤسسات الخيرية"، وتحت مظلة الآلة الإعلامية الضخمة المتكئة على وسادة مصالح الطبقة المتوسطة التفكير، تحلقت جميعها حول بعضها البعض، وشدت من أزر مصالحها المشتركة. وسخرت كل ذلك كعنصر متقدم قادر على امتصاص النقمة، ومزج ذلك مع دور الفنان كـ "عامل اجتماعي" والفن كـ "مخدر" في حجب مسؤولية النظام المسؤول عن التدمير المأساوي. نقد دونو لفكرة أن الحكم هو مساهمة أخرى مرحب بها، حتى وهو في سياق إلقاء الضوء على شكل من أشكال النظام في حالة تدهور حاد. يجادل دونو هنا بأن الطبقة المتوسطة تحكم من خلال سيطرتها على مفاصل صنع القرار، الذي يصفه بأنه سراب نسج بكفاءة عالية على شراكات قامت بين أولئك الأفراد المتخلفين وغير المتكافئين في المجتمع المدني، والقطاع الخاص من جانب، ومؤسسة حاكمة (جهاز الدولة) الذي لا يتجاوز دورها مساحة الشريك الطبيعي لأولئك الأفراد، من جانب آخر. يلمح دونو هنا غياب ذلك المركز الذي تدور حوله نشاطات السلطة، كما هو متعارف عليه في الأنظمة الرأسمالية الناشئة. ويرى عوضا عن ذلك أن الجميع الأغنياء والفقراء، الرجال والنساء، البيض والملونين، من لديه عن عمل أو عاطل عن العمل، كلنا، دون استثناء، ننخرط في نفس اللعبة، ونخضع لقوانينها، بوعي أو بدون وعي. هنا يشير دونو في إطار تلميحات متفرقة إلى الدوائر المتنفذة إلى تحويل الدولة إلى مؤسسة رأسمالية تتوخى الربح شأنها شأن الشركات الأخرى، الأمر الذي يفقدها الدور الذي نشأت أو أنشأت من أجله، وهو تسيير دفة المجتمع وصيانة استقراره، وضمان تقدمه. تجر الفئة المتوسطة الكفاءة الدولة نحو المزيد من فقدان دورها التقليدي كمؤسسة تنفيذية لا تتوخى الربح التجاري المباشر لصالح التحول نحو شركة، بكل ما تعنيه كلمة شركة من معنى تجاري. لكن دونو لا ينسى أن يشير إلى أن الأقوياء حقًا هم أولئك الذين يصفهم بـ "الأشباح"، المتخفية وراء وسائط يولدها النظام المتوسط. فهؤلاء هم الذين يراهم دونو بوضوح يتحكمون في حركة خيوط مجتمعاتنا ويجيرون نتائج اللعبة لصالحهم. لكن الأهم من ذلك عند دونو أنه إذا ما "تجرأ" أحد منِّا إلى خفضهم إلى مستوى الفئة ذات المستوى المتوسط للمطالبة بالتعويضات، فسنجد أن أولئك هم من يحتلون موقعاً فوق سلطة الجميع، ولا تطالهم أية أيد مهما بلغ نفوذها، ما لم تكن منتمية لتلك الفئة التي هي فوق الجميع ولا يمكن المساس بها. ينجح دونو هنا في الوصول إلى وصف دقيق للأنظمة الليبرالية، كما يجسدها في أفضل أشكالها النموذج الكندي. لكن عندما تنزع تلك الفئات المتوسطة التفكير للتطرف. أي تحاول مغادرة مواقعها "المتوسطة"، تفاجأ بأنها باتت تواجه حينها بعناصر قوة اليمين المتطرف، الذي تعبر عنه أحزاب اليمين المتطرفة، التي تحمل جداول الأعمال (أجندات) الخاصة بذلك اليمين. ويرى دونو أن هناك اليوم ما لا يقل عن ست دول أوروبية، تسيطر الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة على الحكومات القائمة فيها أو هي جزء منها. وفي هذا السياق يستعين دونو بحكومة دونالد ترامب الشعبوية، الذي شن حملته الانتخابية للرئاسة تحت شعار "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى". هزم ترامب، في تلك الحملة، وتحت ذلك الشعار، الممثل الديمقراطي وهي هيلاري كلينتون، التي كانت نموذجًا للوسط المتطرف. كانت فترته القصيرة هي مرآة نقيض "التدابير المتوازنة" و"التسوية" التي تميز نموذج الحكم للديموقراطية المتوسطة. باتت سمة مميزة من سمات الفئة المتوسطة التفكير هي الترويج للبيئة الحاضنة لتفكيرها، كي نقبل بما يحذر منه دونو وهو نبذ التفكير المبدع الخلاق والاستسلام لما يجعل من السكون المتوسط حالة سرمدية. يشيع نهج دونو الرعب في نفوس قرائه، خاصة كونه يشخص حالات مجتمعات تعد هي الأكثر تقدماً، بل وحتى الأفضل، مقارنة بنظم أخرى. فهو يتحدث عن أنظمة مثل كندا والولايات المتحدة. من يقرأ بين سطور ما كتبه دونو تساوره فكرة أن الكاتب، يدعو بشكل مبطن إلى التأهب للقيام بثورة تقوض أعمدة النظام الدولي القائم من خلال هبة شاملة تقوض نظاماً وتشيد بدلاً منه نظاما آخر. لكن دونو يرفض مثل ذلك، وخاصة تلك الدعوات التي نادت بها الأحزاب اليسارية، بما فيها تلك التي تنتمي لليسار التقليدي المحافظ. ولذلك نجده ينتقد، ولو بشكل مبطن تلك الحركات بما فيها الأحزاب التي كانت تحاول الإطاحة بالنظام الرأسمالي كي تشيد مكانه نظاما آخر، ويدعوها، تلك الأحزاب، إلى الاستفادة من أخطاء مثل تلك الاتجاهات الفكرية، والعمل الجاد من أجل وضع بوصلتها كي تشير نحو اتجاه جديد صحيح، لا ينسف مقومات نزعة الذهنية المتوسطة فحسب، بل ينبذ القوالب المعدة سلفاً، والتي ربما ترتكب أخطاء لا تقل فداحة، ولا خطورة عما تمارسه ذهنية الفئات المتوسطة التفكير، عندما تنخرط، في اللعبة التي تحدث عنها الكاتب.
مشاركة :