قاعدة حياتية.. اسمع مني ولا تسمع عني

  • 4/18/2021
  • 01:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

ذات يوم ذهب أحد الموظفين إلى المسؤول يشتكي عددا من الموظفين زملائه، وبعد أن سمع المسؤول شكوى الموظف الأول، رفع سماعة التليفون، واتصل بالموظفين الخصوم الذين تقدم فيهم الشكوى، وهنا تملل الموظف مقدم الشكوى وخاف من مقابلة خصومه، ولكنه ثبت في مكانه لأن المسؤول طلب منه ذلك. جاء الخصوم وجلسوا أمام المسؤول، وفتح معهم موضوع الشكوى، فاستغربوا من الموضوع إذ إنهم لم يشعروا أن موضوعا مثل هذا يمكن أن يتقدم فيه الزميل بالشكوى للمسؤول، ثم سمع منهم المسؤول وجهة نظرهم، وبعد ذلك حدث نقاش بين الأطراف حتى وصلت القضية إلى نهاية ترضي جميع الأطراف. ترى، ماذا يحدث لو أن المسؤول سمع وجهة نظر الموظف الأول واتخذ قراره ضد الخصوم من غير أن يستمع لهم؟ هل كان هذا من الإنصاف؟ وهذا ما يذكرنا بما حدث في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، كما وردت في سورة يوسف – الآية 54 الذي قال فيه تعالى (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)، ولقد تحدثنا عن الجزء الأول من الآية في مقال سابق، ولنتحدث اليوم عن الجزء الثاني من الآية التي تقول (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ). يلاحظ أن الملك العظيم بعدما سمع قصة يوسف عليه السلام من أفواه الآخرين -وهم الخصوم الذين تسببوا في إدخال سيدنا يوسف عليه السلام السجن- ومنهم زوجة العزيز التي دبرت المكيدة وكذلك النسوة اللاتي قطعن أيديهن عندما شاهدن جمال سيدنا يوسف عليه السلام، استدعى يوسف من السجن، ويمكن أن يلاحظ أن الملك لم يكتف بأن يسمع الخصوم فقط وهم يتحدثون ببراءة المتهم وإنما طلب أن يسمع المتهم نفسه؛ ترى ماذا سيقول عن نفسه والأحداث التي جرت قبل سبع سنوات؟ ونحن لا نعرف كيف حدثت المحاورة واللقاء والمناقشة، وأي طابع أخذت تلك المواجهة ولكن يمكن أن نلاحظ أن هذا التعبير القرآني الفريد حوى في جزئية من الآية الكثير من المعاني، ليس ذلك فحسب وإنما وضع قاعدة حياتية خطيرة لو فكر فيها أي مسؤول أو أي أب أو رب عمل أو أي شخص ما حدث الكثير من المشاكل الحياتية، فيمكن أن يُلاحظ أن تلك الجزئية من الآية مقسمة إلى جزأين، الأول (فلما كلمه) ثم الجزء الثاني (قال إنك اليوم لدينا مكين أمين)، بالإضافة إلى ذلك فقد وجدنا أن هناك بعض الجزئيات الأخرى التي يمكن أن يتعرف عليها القارئ من سياق الأحداث كما سنتحدث عنها لاحقًا، وهذا يعني أن الملك سمع لسيدنا يوسف عليه السلام كما سمع للخصوم الذين تسببوا في وضعه عليه السلام في السجن، وبالتأكيد أعطاه حرية الكلام حتى يقول ويدافع عن نفسه بقدر الذي قالوا وتحدثوا قبله.  إذن سيدنا يوسف عليه السلام تكلم بحرية تامة، ليس ذلك فحسب وإنما أظهر الله سبحانه وتعالى الحق على لسانه هو وكذلك لسان امرأة العزيز والنسوة أنفسهن إذ لم يتمكّنّ من تكذيب النبي الكريم عليه السلام، كم استغرق هذا الوقت؟ لا ندري، ولكن الذي نعرفه أن الملك اقتنع بحديث سيدنا يوسف عليه السلام بعد أن أثبتت كل القرائن ذلك، فبُرّئت ساحة يوسف عليه السلام. ومن الطبيعي أنه بعدما بُرئت ساحة المتهم البريء أصبح عند الملك مكينا أمينا، وهذا أقل جزاء يمكن أن يحصل عليه بعد سبع سنوات في غياهب الظلام والسجون. (فلما كلمه) وبمعنى آخر (اسمع مني ولا تسمع عني)، هذه هي القاعدة الحياتية التي يجب أن نعيد التفكير فيها. وتتكون هذه القاعدة من 4 مراحل، هي: 1- المرحلة الأولى: أن نترك الأشخاص يتحدثون بحرية، ليعرض كل منهم القضية من وجهة نظره هو، فالحقيقة عادة لها ثلاثة أوجه، وجهة نظر المدعي، ووجهة نظر المدعى عليه، والحقيقة نفسها، ربما تتطابق جزئيات من وجهات النظر وربما تختلف، لذلك فإن (فلما كلمه) كقاعدة تقول لنا أترك الجميع يتحدث. 2- المرحلة الثانية: الإصغاء، على من وضع نفسه قاضيًا أن يصغي لجميع الأطراف من غير تحيز أو مواربة، فالمسؤول الذي يأتيه أي موظف يشتكي فإنه يجب أن يصغي للموظف الآخر، وعندما تشتكي الزوجة فإنه من المهم أن نصغي للزوج، وهذا ما فعله ملك مصر، فقد أصغى لامرأة العزيز وجميع النسوة، وبعد ذلك أصغى لسيدنا يوسف عليه السلام. 3- المرحلة الثالثة: البحث عن الحقيقة، فالكلام في حد ذاته لا يكفي، فربما بعض الأطراف يخفي بعض الحقائق، لذلك فإنه على المسؤول أو القاضي أو من يقف في هذا الموقف أن يبحث عن الحقيقة، وفي قصة سيدنا يوسف قد جرت الحقيقة على لسان امرأة العزيز نفسها حينما قالت (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ، قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ، قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) الآية 51. 4- المرحلة الرابعة والأخيرة: إحقاق الحق وإزالة الظلم، فعندما نشعر بأنه وقع ظلم على شخص فإنه لا يكفي أن تبرئ هذا الشخص، ولكن من جميل الأخلاق أن يُزال ذلك الظلم الذي وقع عليه، وتظهر الحقيقة للعيان وربما تمكين هذا الإنسان من حقوقه التي فقدها، لذلك قال ملك مصر لسيدنا يوسف في الآية 54 (قال إنك اليوم لدينا مكين أمين).  علمًا بأن هذه المراحل بعضها واضحة في الآية، وبعضها يمكن أن نستشفها في سياق الأحداث ومن خلال الآية نفسها. وتطبيقًا لهذه القاعدة، فإنه في إحدى المرات قال لي أحد الأشخاص كان مسؤولاً ذات يوم عن قطاع من الأعمال: ذات يوم عندما كنت مسؤولاً عن القطاع (الفلاني) كان لدي موظف جيد ومتمكن وقيادي، والعديد من الموظفين يشيدون بقدراته ومهاراته وخاصة في خارج إطار المؤسسة التي نعمل فيها، وأنا من النوع الذي لا يفضل العمل بنظام الأبواب المفتوحة، إذ كنت أفضل أنه إن رغب أحد الموظفين في مقابلتي أن يأخذ موعدا ويدخل بحسب الموعد ويخرج في حدود الزمن المتاح، وذلك من مبدأ أن للعمل حدودا يجب احترامها. عمومًا، لنعد إلى ذلك الموظف، كانت شهرة ذلك الموظف وقدراته وخاصة عندما نعقد اجتماعا معينا، أو أن نقوم بزيارة لمكان معين، كان ذلك الموظف هو أبرزنا شخصية وقدرات، فالجميع من غير استثناء يكن له كل الاحترام وخاصة في خارج المؤسسة، فالناس جميعهم يعرفونه بل ويحبون حديثه ويستمتعون بقدراته الذهنية، وكان هذا الأمر يغضبني ويحيرني ويثيرني. حتى جاء عدد من الموظفين، وحتى أكون محقًا، ليس من الموظفين الذين يعملون تحت إمرته، وإنما من إدارات أخرى ليس لهم علاقة به، جاؤوا يتكلمون عنه وعن غروره ومشاكله وطموحاته وأنه يرغب في أخذ مكاني في المؤسسة، وكذلك مؤامرته عليّ والكثير من ذلك الكلام، وللأسف وجدت ضالتي في كل ما يقال، وأنا أريد مثل هذا الكلام، لذلك ما كان مني إلا أن نقلت هذا الكلام للمسؤولين في الإدارة العليا، بهدف واحد لا غير، هو أن يفصل من غير تردد. فوافقت الإدارة العليا لمطالبي، وطُلب مني أنا شخصيًا أن أحمل رسالة فصله إليه، فوافقت وذلك من أجل إطفاء النار الملتهبة التي تتوقد في نفسي منذ سنوات وأنا أحاول أن أتعايش مع هذا الإنسان. عندما دخلت عليه المكتب وسلمته الكتاب، وبدأ في قراءته، في الحقيقة في تلك اللحظة كنت أرجو أن يتوسل إلي حتى أرضى عنه وأن أعيده للعمل، إلا أنه لم يفعل، فنظر إلي وقال: «أنا أعرف أنه قد نقل إليك كلام على لساني من أشخاص ليسوا على علاقة بي ولا بعملي، وهم في الحقيقة لا يعرفونني، إلا أنك صدقتهم لأنك تريد أن تصدقهم، وهذا شأنك، ولكن كنت أرجو أن تسمع مني كما سمعت منهم إلا أنك لم تفعل. عمومًا، أنا سأخرج من هذه المؤسسة، ولكن سيأتي يوم ستتذكرني وتأتيني متوسلاً أن أغفر لك».  قلت: «ماذا؟ هل ستذهب وتشتكيني في المحكمة؟». قال: «سأنقل ملف القضية من الأرض إلى رب السماوات والأرض، فهو أعلم بكل ما جرى ويجري». ثم أخذ أغراضه الشخصية وخرج. وبعدها بسنوات طويلة عندما تعثر أولادي في الدراسة وفي الحياة وفي كل شيء تذكرته، وذهبت أبحث عنه إلا أني لم أجده، وفعلاً أشعر الآن بالكثير من المرارة والحسرة على تلك اللحظة، وكنت أردد في نفسي «لو أني أصغيت إليه كما أصغيت لغيره»، إلا أن الوقت قد انقضى. هذه القاعدة حياتية ولا تطبق في الإدارة فحسب، وإنما حتى في حياتنا اليومية، بين الزوجين، وفي الأسرة، وفي الحياة وبين الإخوة والأخوات، لو أننا أصغينا لبعضنا من غير حواجز لحُلت الكثير من الأمور، فلا عداوات بين الإخوة والأخوات، ولا ضغينة بين المرء وزوجه، وحتى بين زملاء العمل لن تجد ما يسوء، فقط «اسمع مني أيًا ما كان الحديث الذي نقل عني، ولا تسمع عني من حاقد أو مسيء يريد الإساءة لي ولك».  Zkhunji@hotmail.com

مشاركة :