قد يرتكب أحد الموظفين خطأً بتحويل مبالغ نقدية إلى أحد عملائه، ولو كان ذلك في أكبر شركات الخدمات المالية العالمية، فقد حدث ذلك قبل ثلاث سنوات عندما أرسل "دويتشه بنك" 28 مليار يورو (33 مليار دولار)، أي أكثر من كامل قيمته السوقية، إلى أحد حساباته الخارجية، وعلى الرغم من تلافي مثل هذه الحوادث المؤسفة بعد ذلك، فإنها تتسبب في إحراج الشركات الكبرى. في شهر أغسطس الماضي تعرضت مجموعة "سيتي غروب"، إحدى أكبر شركات الخدمات المالية الأمريكية، لخطأ مماثل، حين أجبرها خطأ بشري على دخول معركة قضائية مع بعض من عملائها، بعدما حوّل البنك عن طريق الخطأ نحو 900 مليون دولار لمُقرِضي شركة "ريفلون" الأمريكية لمستحضرات التجميل، التي تُعتبر أهمّ أصول الملياردير رونالد بيرلمان، ورفض بعضهم بعد ذلك إعادة الأموال. وأوضح تقرير نُشر عبر وكالة "بلومبرغ" الإخبارية أن ذلك الخطأ أجبر "سيتي غروب" على إعادة كتابة بيان أرباح الربع الرابع وتقديم توضيحات أمام الجهات التنظيمية. نقد لاذع وتعرضت "سيتي غروب" في أثناء محاولتها استرداد الأموال لنقد لاذع، ونشأ على أثر ذلك الخطأ استياء واسع في سوق الائتمان، حيث يقدّم المستثمرون من المؤسسات التمويل للشركات فيما تؤدّي البنوك دور الوسيط في تقديم التمويل، وتشكّل النزاعات التعاقدية جزءاً من ذلك أيضاً. وسرعان ما أفسح الخطأ الطريق للسخرية بين مقرضي "ريفلون" حين بدأت تصل إليهم إشعارات من "سيتي غروب" تطالبهم بإعادة الأموال عبر صناديق البريد الوارد الخاصة بهم. ودفعت المحادثات الداخلية بين موظفي "إتش بي إس" و"سيتي غروب" -جُمع بعضها من منصة تُديرها "بلومبرغ"، كجزء من إجراءات المحكمة- القاضي جيسي فورمان من المنطقة الجنوبية بنيويورك إلى الوقوف بجانب المُقرضين بحجة أنهم لم يكونوا على علم بتحويل الأموال إليهم عن طريق الخطأ. "هذا الجانب السلبي للعمل من المنزل. ربما كان كلبه من ضغط على لوحة المفاتيح"، يواصل مدير محفظة في "إتش بي إس" في محادثة مع أحد الموظفين السخرية بقوله: "كيف كان يومك اليوم يا عزيزي؟ كان على ما يرام، إلا أنني حوّلت عن طريق الخطأ 900 مليون دولار إلى أشخاص لم يكن من المفترَض أن يحصلوا عليها". ورغم أن القانون يعاقب عادةً أولئك الذين ينفقون الأموال المودعة بالخطأ في حساباتهم، لا سيما وأن التحويلات غير المقصودة شائعة في العصر الرقمي، ويمكن استردادها على الفور، فإن قانون نيويورك لديه استثناءات لهذه القاعدة، معروفة باسم "إبراء الذمة مقابل استحقاق القيمة"، فإن كان المستفيد مستحقاً للمال ولم يكن يعلم أنه حُوّل إليه عن طريق الخطأ، فيمكنه الاحتفاظ به. وفي هذه الحالة حصل بعض الدائنين على أموال اعتقدوا لأسباب معقولة أن دفعها كان مقصوداً، وقرروا الاحتفاظ بالأموال، على الرغم من أنها أموال "سيتي بنك" الخاصة لا أموال "ريفلون". وقالت "سيتي غروب" في بيان: "نعارض بشدة هذا القرار ونعتزم استئنافه"، وطلبت من المحكمة تجميد الأموال في ظلّ استمرار عملية التقاضي"، وأضافت في البيان أن الشركات "تلقّت عن طريق الخطأ مكاسب غير متوقعة". خطأ فادح ولم يُدرك مصرف "سيتي بنك"، الذراع المصرفية لمجموعة "سيتي غروب"، حجم الخطأ الذي وقع فيه إلا بعد يوم تقريباً، إذ كان من المفترض أن يستعدّ اثنان من متعاقدي "سيتي بنك"، الذي يعمل بصفته وكيل قروض "ريفلون"، إضافة إلى أحد كبار مديري البنك في ولاية ديلاوير، من أجل إرسال نحو 7.8 مليون دولار من مدفوعات الفائدة إلى مقرضي شركة مستحضرات التجميل الشهيرة، لكنه أرسل عن طريق الخطأ 100 ضعف هذا المبلغ، بما في ذلك 175 مليون دولار، إلى أحد صناديق التحوط (الاستثمار)، ليبلغ مجموع ما أرسله البنك 900 مليون دولار تقريباً. وعلى مدار سنوات عديدة وباعتبارها أحد أكبر وكلاء قروض الشركات في العالم، أرسل "سيتي بنك" مئات مدفوعات الفوائد على المقرضين من أطراف خارجية، إذ يُعد ذلك دوراً تقليدياً لا يُسهِم في تحقيق مكاسب مُجدية للبنك الاستثماري، لكنه يمهّد له الطريق عادةً لعقد صفقات مستقبلية. وافقت إحدى الشركات الاستثمارية التي تمتلك جزءاً من القرض على مبادلة جزء من قرض آخر لـ"ريفلون" بحصتها، وأعربت عن أنها بحاجة إلى أن تحصل على مدفوعات الفوائد التي تراكمت على شركة مستحضرات التجميل حتى هذه اللحظة، لذا قدّم المصرف حلاً بديلاً، هو نقل أصل القرض مؤقتاً إلى أحد حسابات المصرف الخاصة، ثم إعادة إنشاء القرض ليعكس أن الدائن لم يعُد يمتلك أي جزءٍ منه، إلا أن الموظفين لم ينتبهوا إلى أن ترك وضع علامات على اختيارين في البرنامج المُعقَّد الذي تستخدمه "سيتي بنك" لأداء المدفوعات، قد سمح بدفع أصل القرض بالكامل البالغ نحو 894 مليون دولار للدائنين باستخدام أموال البنك الخاصة. وأوضح تقرير "بلومبرغ" أن هذه العملية تَطلَّبَت موافقة ثلاثة أشخاص، إلا أنهم لم ينتبهوا لحجم الخطأ الذين وقعوا فيه إلا بعد ساعات من توزيع المدفوعات. معارك مريرة ما زاد الطين بلة على شركة الخدمات المالية، أن عديداً من المُقرِضين الذين تَلقَّوا المدفوعات بما في ذلك "بريغايد كابيتال مانجمنت"، و"إتش بي إس إنفيستمنت بارتنرز"، و"سيمفوني أسيت مانجمنت"، انخرطوا في معركة مريرة سابقاً مع "ريفلون" و"سيتي غروب" عند إبرامهم صفقات الديون التي أجرتها "ريفلون" من أجل تحسين وضعها المالي وعدم إعلان إفلاسها. واتهم كل من "بريغايد كابيتال مانجمنت"، و"إتش بي إس إنفيستمنت بارتنرز"، و"سيمفوني أسيت مانجمنت"، شركة "ريفلون" بانتهاك شروط اتفاقية القرض الخاصة بها من خلال التعهد ببعض حقوق الملكية الفكرية، بما في ذلك العلامات التجارية، كضمان للديون الجديدة، بحيث ترى صناديق التحوط أن هذا التعهد يجعل بعض ممتلكات "ريفلون" الأكثر قيمة بعيداً عن متناولها في حالة الإفلاس. ويكشف التقرير أن الشركة الأمريكية التي كانت يوماً جوهرة صناعة مستحضرات التجميل، أصبحت تُعاني لتصمد في عصر تهيمن عليه الشركات الأصغر حجماً، التي يروّجها الأشخاص المؤثرون عبر موقع "إنستغرام"، وتسبب ذلك في جعل القرض الذي سددته "سيتي غروب" بالكامل متداوَلًا بأقل من 30 سنتاً للدولار الواحد، ما يعكس حجم احتمالية التخلف عن السداد. ولم يُخفِ المستثمرون أيضاً كراهيتهم لـ"سيتي غروب"، فانتقدوها لمساعدتها "ريفلون" على تأمين خط ائتمان جديد من المقرض المتعاطف مع إدارة "ريفلون"، الذي سيقف إلى جانب الشركة في نزاعاتها مع المقرضين. رفض ردّ المبالغ ووافق بعض الدائنين على إعادة الأموال، لتسترد "سيتي غروب" نحو 400 مليون دولار، إلا أن كلّاً من شركاء الاستثمار "إتش بي إس" وما يقرب من اثني عشر من المقرضين الآخرين رفضوا ذلك بحجة أنهم يحقّ لهم الاحتفاظ بالأموال، وقال سكوت كاراهار، مدير القروض في "سيمفوني أسيت مانجمنت": "تلقينا للتوّ المال الذي كنا مستحقّين له من مقترض ووكيل قروض" لقاضٍ في مقاطعة أمريكية بعد أن لجأت "سيتي غروب" إلى المحكمة لاسترداد الأموال. تبعات عدم استرداد المال وبعد عدة أشهر، لا تزال تبعات عدم استرداد شركة الخدمات المالية الأمريكية واضحة، إذ قطعت "سيتي غروب" جسور التشارك مع شركات الاستثمار التي رفضت إعادة الأموال وأصرّت على التمسك بها، وأصبحت تستثنيهم من عروض الديون الجديدة وترفض مساعدة بعضهم في تجميع قروض شركاتهم في أوراق مالية ليشتريها مستثمرون آخرون. ترى "بلومبرغ" أن جائحة "كوفيد-19" كشفت عن مدى قبح النزاعات بين المقرضين والمستثمرين، ففي الوقت الذي أصبحت فيه الشركات تعاني ضائقة مالية وأصبحت على شفا إعادة الهيكلة، جعلت اتفاقيات القروض والسندات -التي يصفها النقاد بأنها مليئة بالثغرات- استثمار الديون أكثر من مجرد مسألة جني أرباح وتحديد جودة الائتمان، بل أصبحت معركة حول من يمتلك القوة الغالبة.
مشاركة :