يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي" الحمد لله الذي رفع قدر الإنسان بالدنيا، وأعلى شأن المخلصين الأوفياء، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، وهاديهم إلى الصراط المستقيم سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين. فبهذه المناسبة العظيمة شهر رمضان المبارك علينا أن نترحم ونتذكر شخصيات قدمت خدمات للبشرية. قد يعطي المرء لوطنه يوماً من أيام عمره.. ولكنهم قلائل من يعطون كل أيام عمرهم..! مثل ما أعطت الراحلة الأميرة فاطمة الزهراء بنت السلطان مولاي عبدالعزيز رحمها الله، ورغم انها قد رحلت عن دنيانا.. سنة ٢٠٠٣، مر ١٨ سنة عن رحيلها المر لا يجعل كل من عرفها عن قرب أو توصل بمكرمتها وكلامها الطيب يرثيها بل يرثي حياتهم التي خلت منها.. يرثي حالهم بعدها فكم هو قاس ومؤلم أن تفتقر الحياة الى الطيبين أصحاب العطاء الذين كانوا للفقراء والمساكين والمحتاجين، أنواراً تضيء طريقهم. ومؤخرا لبت نداء ربيها صديقة الطفولة ورفيقة العمر للأميرة للا فاطمة الزهراء رفيقة حياتها التي تربت وترعرعت مع الأميرة المرحومة للا الباتول الرحماني عن عمر يناهز٩٧سنة. ف ١٨ سنة من الفراق التحقت المرحومة الباتول بصديقتها الأميرة للا فاطمة الزهراء العزيزية. رحلت الأميرة فاطمة الزهراء عن الدنيا ورغم إيماننا بقضاء الله وقدره وان الموت حق ماضٍ على كل حي، إلاّ أن الفراق صعب ومر وخاصة عندما يكون الرحيل للأميرة الإنسانة نبراس الجميع صاحبة القلب الرحيم والتواصل بين الأقارب والأصدقاء، وأم الأرامل واليتامى والمساكين والمدافع عن حقوق المرأة، فكانت رحمها الله من النساء البارزات في المجتمع بالوطن العربي. الاميرة الراحلة من المخلصات ومن المداومات على فعل الخير وحبها للبر والإحسان لذوي القربى وذوي الحاجة، وتكون في قمة السعادة عندما تفرج ضيقة محتاج، فمن صفاتها المودة والمحبة والتقوى والمداومة على طاعة ربها والحرص على مصالح الجميع والحث على توطيد أواصر المحبة والألفة. فلقد أكرمها الله تعالى بمحبة الجميع من أبناء وأقارب وأصدقاء الذين كانوا يلتقون عندها عبر زياراتهم المتكررة والدائمة لها، وكما يطلق عليها أميرة الفقراء أو أميرة الشمال. فروحها رحمها الله، قلباً ذهبياً، وسخاءً ربيعياً، حتى ضربت بجذورها في أعماق القلوب، وأصبحت شجرة طيبة تغدق ثمارها الرطبة الجنية حيثما سارت.. لمن بذلت وقتها في سبيل خدمة وطنها والمرأة المغربية ..والإفريقية والعربية. فإلى روح سموها الكريم تتجدد المحبة والوفاء والدعوات الصادقة من كل الوطن العربي العريض، رحلت الأميرة فاطمة الزهراء بنت السلطان مولاي عبدالعزيز ودعت الدنيا منذ ١٨ سنة، وقلوبنا تدعو لها وتركت العبرات في كل صدر أحبها وكل يدٍ صافحتها.. وكل عين التقت في عمل الخير والجود معها. فالأميرة الراحلة لالة فاطمة الزهراء بنت السلطان مولاي عبد العزيز، أميرة الشمال، أميرة الفقراء،من الأميرات الائي ظللن في الظل ، الأميرة لالة فاطمة الزهراء العزيزية، التي عرفت بقربها من المواطنين البسطاء. زوجة الأمير مولاي الحسن بن المهدي العلوي خليفة السلطاني في عهد الحماية الإسبانية، و هي ابنة السلطان مولاي عبد العزيز و ابنة عم الملك الحسن الثاني رحمهم الله. و رغم أن الأضواء لم تكشفها، إلا أن دورها كان كبيرا في مجال تحرير المرأة المغربية. كما كان لها دور بارز في الاتصال و ضمان التواصل بالملك محمد الخامس أثناء تواجد جلالته بالمنفى بمدغشقر. و كان زوجها الأمير مولاي الحسن بن المهدي العلوي، صلة وصل بين السلطان و الوطنيين من جهة، و بين جلالته و أحرار الفرنسيين المساندين للقضية المغربية من جهة أخرى. و كرست الأميرة حياتها للبسطاء و المرأة بالمغرب و اختارت الاستقرار بمدينة طنجة. و قد عرف عنها أنها منذ عقود لم ترتد إلا شكلا واحدا من اللباس، الحجاب الحريري و الجلباب التقليدي المغربي. علما أنه في شبابها كانت ترتدي الزي الأوروبي. عشقت الاختلاط بالناس و التسوق بنفسها بأسواق طنجة العالية. كما كانت تخرج مرارا إلى البادية المجاورة للمدينة و تصعد الجبال لمقابلة المرأة الجبلية البدوية و معاينتها في عملها اليومي الشاق، و أحيانا كثيرة كانت سموها تتحدث ساعات طوال مع إحداهن تحت شجرة أو ظل صخرة أو سفح الجبل. لقد كانت تقول أنها مسكونة بقضية المرأة المغربية البسيطة، و تتقزز لخضوعها الزائد عن الحد المقبول. و لرصد بعض معالم مسار هذه الأميرة “الشعبية” لا مناص من الرجوع إلى الوراء، و بالتحديد إلى نهاية القرن التاسع عشر بعد وفاة السلطان المحارب مولاي الحسن الأول و خلفه ابنه مولاي عبد العزيز، المفضل له من بين كل أبنائه، و سنه كان آنذاك لا يتجاوز ١٦ سنة. و في هذا الصدد تقول الأميرة لالة فاطمة الزهراء أن المولى عبد العزيز لم تكن لديه تجربة لكنه كان يحظى بثقة والده الذي كان ينصحه دائما قائلا له: “عليك بالحرص الشديد…فالدول ظلت دائما تطمع في المغرب لكنه تمكن من المقاومة…قاوم العثمانيين أنفسهم..و مهما يكن من أمر عليك الاحتفاظ على استقلال البلاد”. و الأميرة فاطمة الزهراء هي الإبنة الوحيدة لمولاي عبد العزيز الذي بعد رشد و استخلاص الدروس قرر تمكين قرة عين ابنته الوحيدة من تعليم عصري منفتح على العالم، و قد سهل وضع طنجة الدولية آنذاك لبلوغ المرمى. و تقول الأميرة… آنذاك كانت طنجة منفتحة على العالم و على جميع الثقافات و جميع اللغات. و حتى لا تشعر الأميرة بالوحدة كانت المرحومة للا الباتول الرحماني مرالقتها وهي طفلة، بالإضافة تبنى والدها ١٥ طفلة يتيمة أو منحدرة من أسر فقيرة للدراسة لمرافقتها في الدراسة بالمدرسة الايطالية ثم بالكوليج الفرنسي. و تقول… “كان دائما يقول لي عليك أن تتعلمي جيدا بلدك بأي شكل من الأشكال و للقدرة على العطاء للآخر…” و عندما بلغت الأميرة السابعة من عمرها سافرت رفقة أبيها إلى فرنسا… و تحكي…” كنت رفقة أبي و زوجته نتجول أياما بكاملها بباريس… و كان أبي يحث زوجته بكشف وجهها…آنذاك لم أكن أعرف كيف ستتطور حياتي لكن كنت أرغب بشدة أن تكون حياة بدون حواجز و عراقيل و بدون خضوع… كنت أحلم بالحرية…” و مرّت السنين و مرحلة المراهقة. و شرع مولاي عبد العزيز في الحديث مع ابنته عن الزواج…اقترح عليها ابن عمها، ابن خليفة السلطان بتطوان لكنها لم تستحسن الفكرة و لم ترفضها في البداية بقوة لا سيما و أن ابن العم كان متزوجا و له أطفال… و تضيف … “إن الشابة لا تريد الزوج إلا إليها وحدها دون سواها”. لكن مولاي عبد العزيز ظل يطارد ابنته إلا أن وافقت على مقابلة خليفة السلطان و قبلت الأمر، و كان عمرها آنذاك لا يتجاوز ١٦ سنة. شابة أصبحت قائمة على الدار السلطانية. و استقرت بالمبنى الذي كان مخصصا للقيصر الألماني، و هو المكان الذي ظلت تقطنه دون مغادرته. كان الزفاف سنة ١٩٤٩، و عقد قران الأمير مولاي الحسن بن خليفة السلطان بتطوان بالأميرة فاطمة الزهراء . دامت الاحتفالات أسابيع، و قدّر المدعوون بالآلاف، و حضر الحفل الكلاوي باشا مراكش و الصدر الأعظم و أعيان الإسبان و رؤساء قبائل الشمال و الرجال الزرق الآتين من الصحراء ويعتبر زفاف الأميرة للا فاطمة الزهراء بالخليفة السلطاني مولاي الحسن بن المهدي، عرس القرن العشرين. و كان أبرز المدعوين الأمير مولاي الحسن (الملك الحسن الثاني). لقد كانت الاحتفالات ضخمة حقا…فنطازيا ، مهرجنات غنائية و رياضية، استعراضات، مأدوبات فاخرة، خيام منصوبة في كل أرجاء المدينة، سهرات في كل أرجاء المدينة… و للإشارة كانت الأميرة فاطمة الزهراء، أول أميرة آنذاك تكشف وجهها للعموم…و في هذا الصدد تقول…كان زوجي رجل عصري يعرف حق المعرفة كيف ربّاني والدي… و عاشت الأميرة بقصر تطوان…و تقول في هذا الصدد أن الحياة بهذا القصر تكاد تكون مقرفة من جراء ثقل البروتوكول التي كانت تتحملها على مضض…و كانت تعبر عن هذا الشعور بالتصريح بأن عليهم بالتعليم لأنه فرصتهن الوحيدة و أن القرآن يمنحن هذا الحق و حقوق كثيرة أخرى و لا ينصحهن بالخنوع المفرط و التبعية المميتة… و عندما كانت الأميرة يضيق بها الحال تغادر تطوان و تسافر إلى طنجة لقضاء أيام بين أفراد عائلتها هروبا من ذلك الجو الثقيل. و بعد الإعلان عن الاستقلال تم إلغاء النيابة السلطانية بالشمال و عًيّن نائب السلطان سفيرا للمغرب و رافقت الأميرة زوجها. و عند عودتها إلى المغرب سنة١٩٦٩، عينها الراحل الملك الحسن الثاني رحمه الله، رئيسة الاتحاد النسائي المغربي اعتبارا لاهتمامها المبكر بإشكالية تحرر المرأة المغربية، و لكنها ظلت تعتبرها معركتها الأولى. لكنها كانت تعرف حق المعرفة أن عليها أن تسير على مهل و في صمت بدون أدنى انزلاق لا في الفعل فحسب و لكن حتى في اللفظ. و قد قالت إحدى المحاميات في حق الأميرة في هذا الصددد ك “كانت تقود حربا لكن بطريقة ناعمة جدا”. و منذ أن تكلفت بالمهمة بدأت جولة في المغرب. كانت تمتطي سيارتها و تتجول عبر البلاد… و قد أدهشتها درجة الفقر المدقع الذي عاينتها لاسيما في صفوف النساء و حرمان جهات و مناطق عديدة من الماء الشروب و الخدمات الصحية و العلاجية الأولية و تجدر الأمية بين المغربيات…تحدثت للنساء في كل مكان و شرعت بمآسهن لاسيما الأرامل و المطلقات منهن…و كانت البداية بإنشاء فروع الاتحاد النسائي في مختلف أرجاء المغرب…و انتقلت صحبة الأطباء و الصيادلة و رجال القانون المتطوعين إلى جملة من المناطق المغربية لتوضيح جملة من الأمور للمرأة المغربية… و سهرت على إحداث مراكز الاستماع للمرأة و ورشات التكوين النسائي و التعونيات ، كما عملت على تشجيع أليات القروض الصغرى. و بعد ذلك بدأ الاهتمام بدفع المرأة المغربية للمشاركة السياسية. و كانت الأميرة تقول دائما في تصريحاتها .. الفقر..منع الحمل…السيدا…تحرر المرأة… هذه عبارات و كلمات تخيف البعض لكن علينا التحادث فيها بصراحة و مسؤولية لأنها أمور لا تهم المرأة المغربية وحدها، و إنما المجتمع بأسره، من قمته إلى قاعدته. و قد استغلت صفة الأميرة لتشجيع النساء على الاهتمام بقضاياهم…فمن كان يقدر بالمغرب آنذاك أن يمنع زوجته أو بنته أو قريبته من حظور نشاط تشرف عليه الأميرة ابنة عم الملك…فحتى العلماء و الفقهاء لم يتجرؤوا على النبس بكلمة في هذا الصدد. و بخصوص الحجاب…صرحت الأميرة فاطمة الزهراء مرارا قائلة… “أنا أرتدي الجلباب و أعمل مع شابات تدرتدين فساتين قصيرة…و حفيدتي تعشق ارتداء السراويل…فلكل حريته طبعا…” أما بخصوص تعدد الزوجات فقد أعلنت الأميرة حربا ضروسا في مواجهته…و في هذا الصدد كانت تنصح النساء بإدراج أقصى البنود بعقد النكاح. ففقدان الأميرة الإنسانة.. ترك حزناً عميقاً في نفوس جميع أبناء وبنات الشعب المغربي والوطن العربي الذي أحبها بصدق، وأصيب كل من سمع نبأ وفاتها بفاجعة مؤلمة وكل من حضر ومن لم يحضر العزاء، يعجز قلمي ومداد كلماتي عن وصفها..الدموع والحزن الذي خيم علينا جميعاً خلال أيام العزاء منذ ١٨ سنة على فراقها لهو نابع من قلوبٍ محبة صادقة تدعو لها بالمغفرة والرحمة من رب غفور رحيم.
مشاركة :