فيما المنطقة باسرها تعيش على وقع تحديات ضخمة تهدد الاستقرار والتنمية والمكتسبات التي تحققت، تشهد الساحة المزيد من المعارك الإعلامية الهامشية التي لا تلحق الضرر بأصحابها فقط، بل بجمهور المواطنين الذين لا دخل لهم فيها، كما نصطدم بهشاشة إعلامنا العربي وضعف أدائه في مواجهة الكوارث على الصعيد الداخلي، وفي مواجهة الهجمة التحريضية على الصعيد الخارجي. فالسمة العامة لإعلامنا العربي -مع الإقرار بوجود تفاوت بين بلد وآخر- هي ضعف الأداء، والوقوع تحت طغيان نزعة الولاء الأعمى، وهما آفتان إذا حلتا بالاعلام حطت من قيمته، وجعلته هزوا، فضعف الأداء ليس في حاجة إلى بيان، فهو الظاهرة المشاهدة بالعيان: نفس الوجوه، نفس الأسماء والركاكات التي درجنا عليها، ومازلنا نراها ونسمعها وتصيبنا بالغثيان، ضعف الأداء مبني على فقر في الإمكانيات واعتقاد بان الإعلام شاعر جاهلي يصرخ في البرية لاستنهاض الحمية في معارك الثأر، مجرد كلمة رنانة ومذيع يصدح وأغان بلهاء وصور فلكلورية باهتة. أما الآفة الثانية فهي طغيان الطابع السياسي الحزبي على الإعلامي المهني، إعلام الخنادق والحناجر والخناجر والقراطيس الملونة برائحة الحزب والمال، مما حول الاعلام بكافة اشكاله إلى منبر من المنابر الحزبية التي تنتفي معها في الغالب الأعم المصداقية والنزاهة، ولذلك نبتلع بمرارة بالغة كل يوم ما يكتبه عدد من الحمقى وباعة الكلام، ممن سيطرت على عقولهم الولاءات الطائفية والحزبية بما يسيء للوطن ولإنسانية الانسان، مع أن الإعلام ينبغي أن يوجه السياسة لا أن توجهه السياسة، لأنه إذا خضع للتوجيه فقد موضوعه، كما ان الإعلام الجدي يفترض به أن يجمع الناس على القضايا الوطنية المصيرية الجامعة التي تعلو على كل المواقف الحزبية، وخاصة ما يتعلق بالوحدة الوطنية ومحاربة الطائفية، ومثيري الفتن والنعرات البدائية، والمحرضين على العنف أو تبريره باي صورة من الصور. المهم أن تكون رسالة الإعلام، رسميا كان أو غير رسمي، من حيث المضمون والهدف: صدق الرسالة والمقصد والنوايا، دون تزييف أو إثارة على حساب الحقائق، وإبراز للحقائق والانجاز دون تطبيل أو تحقير أو تغييب، وتعزيز لوحدة المجتمع وتعايشه السلمي، وجعل الديمقراطية ذهابا نحو المستقبل بلا رجعة إلى الوراء، ثم الدفاع عن الحق دون وقاحة أو تحامل، وجعل المصلحة الوطنية العليا بوصلة التحكم في جميع المسارات، أما من حيث الشكل، فمن البديهي أن يكون الإعلام محكوما بالإبداع والمهنية، بما يقتضي تطهير الساحة الإعلامية من الزائفين والدجالين والدراويش والكذابين والفقراء فكرا وإبداعا، ومثلما لا يستطيع درويش أو مهرج تصميم جسر أو مطار أو ناطحة سحاب، فلا يعقل أن يتصدى نفس الدرويش أو الدجال لتوجيه الرأي العام لمجرد انه يريد ذلك، أو لمجرد التسلسل التناسلي الذي قد يوصله إلى العنوان الخطأ في الزمن الخطأ.. ولذلك من حقنا التساؤل عن الكيفية التي يمكن من خلالها الحد من خلالها من المخاطر المتزايدة للحرب الإعلامية الباردة الجديدة التي تسهم في إلحاق اضرار جسيمة بالبنية الاجتماعية وبالاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية؟ وهل يفضي أي جهد للحد من هذه الظاهرة الى المساس بحرية التعبير على الصعيد الوطني؟ وهل العمل على ترشيد الحرية الإعلامية وما تنشره المواقع الالكترونية والتصريحات والفعاليات المثيرة للنعرات والفتنة من شانه ان يؤدي إلى التضييق على الحريات؟ ألا يمكن ان يؤدي مثل هذا الإجراء -الذي يقول عنه البعض بانه لم يعد ينتمي الى العصر والى المجتمع الديمقراطي-الى مواقف مضادة للحريات والحقوق المصانة في القانون والدستور؟ ولكن، وفي المقابل، هل يعتبر إسكات بؤر التوتير والكذب والتلفيق والتحريض الإعلامي عبر مليشيات فيسبوكية ممارسة مضادة للحرية الإعلامية مثلا؟ أم أن الترشيد او الإسكات لا ينفعان في التعامل مع الإعلام في ضوء الانفلات الكامل من الرقابة واستعصاء الترشيد في ظل السماوات المفتوحة وثورة الاتصال التي انهت احتكار الدولة للإعلام والمعلومة؟ إن سؤال الحرية يظل مشروعا بلا شك، والمخاوف من التضييق تظل مشروعة، بالرغم من صعوبة التضييق بل واستحالته في الوقت الحاضر، ولكن ما العمل في ظل حالة الاستهتار العام والتراشق الذي لم يسبق له مثيل، ويشترك فيه سياسيون ورجال دين وإعلاميون وحتى بعض المحسوبين على المثقفين؟ هل يترك الأمر إلى أن يتكرر انفجاره في وجوهنا جميعا مثلما حدث في أكثر من مناسبة؟ يجيب المدافعون عن الحرية الكاملة: المسالة مسألة وقت، فالمجتمع كان متعطشا للحرية، ولكي يتعلم ممارستها بالشكل الصحيح والمتوازن يحتاج إلى وقت والى تربية وتنمية سياسية، وعندها سيتحقق التوازن بشكل تدريجي. ولكن المنطق يقول بعدم وجود حرية مطلقة، وبعدم وجود حرية بدون حدود أو قيود، إلا حرية المجانين، تلك لوحدها حرية مطلقة، وحتى في هذه الحالة فإن على العقلاء ألا يسمحوا لها بان تكون كذلك فيتم تقييد المجانين في المعازل الخاصة بهم. همس الدونكيشوتية تطلق على المعارك الوهمية الخاسرة، وهي مشتقة من اسم دون كيشوت بطل رواية الأديب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا، وهو رجل نحيف يعيش في احدى القرى الاسبانية، ومن كثرة قراءاته في كتب الفروسية كاد أن يفقد عقله، وينقطع ما بينه وبين الحياة الواقعية، ثم يبلغ به الهوس حدا يجعله يفكر في ان يعيد دور الفرسان الجوالين بمحاكاتهم والسير على نهجهم، فخرج لينشر العدل وينصر الضعفاء، حاملا رمحا وسيفا قديمين، وركب حصاناً هزيلاً وخرج للقتال، كانت اولى معركة يخضوها ضد طواحين الهواء اذ توهم انها شياطين ذات أذرع هائلة واعتقد انها مصدر الشر، فهاجمها ورشق فيها رمحه فرفعته أذرعها في الفضاء ودارت به ورمته ارضا فرضّت عظامه. ثم أبصر من بعيد غبار قطيع من الاغنام يملأ الفضاء فتخيل اليه انه زحف جيش جرار فاندفع بجواده ليخوض المعركة التي اتاحها له القدر ليثبت فيها شجاعته ويخلد اسمه وتنجلي المعركة عن قتل عدد من الاغنام وعن سقوط دون كيشوت نفسه تحت وابل من احجار الرعاة.
مشاركة :