إن مفهوم الشكل في هذه المجموعة الممتعة يتجاوز مفهوم الوعاء المجرد الذي ينصب فيه المضمون، فالشكل ليس المخطط الهندسي الخارجي الذي تنصب فيه الرؤى والخيالات بل هو التعبير البنائي الكلي بالرموز والكلمات والتراكيب والصور، فليس الشكل في ناحية والمضمون في ناحية أخرى، بل الشكل هو التعبير والبناء معا، الرائي والرؤية، الناظر والمنظور، ومن ثمة فإن شكل القصة هو شكل العالم ومضمونه، فالشكل ليس مجرد تصميم جمالي لبنية السرد وكفى بل هو في الأساس تنظيم تشكيلي تخييلي معرفي في رؤية العالم. فثمة تداخل تخييلي وثيق بين الرواية والراوي والمنظر والناظر والمنظور. ولقد استطاعت سهير السمان بحرفية ممتعة أن تصمم أشكالها الجمالية القصيرة تصميما رصينا يجمع بين التوازن والوحدة والاستمرار في بنية الشكل نفسه بمعنى أن حققت في نصوصها هذا التوازن الممتع الدال بين العناصر الجمالية الداخلية التي تبني النص من خلال وحدة انطباع إنساني نراه مبثوثا على كافة مكونات الشكل القصصى لديها في العنوان والكلمات والتراكيب والصور والإيقاعات والإيماءات والتصورات، فكأن القصة بلورة متناهية الصغر لكنها بالغة الإشعاع والأناقة والإحكام قادرة على توتير الجدل بين عناصرها الجمالية المتشابكة مما أفسح من المجال الروحي والخيالي والدلالي للقصة من جهة، وخلق مساحات شاسعة من الاستجابة الخلاقة بينها وبين قرائها من جهة أخرى. إن الإطار الفكري الذي تنطلق منه القاصة في هذه المجموعة هو هاجس الرحيل والموت والاغتراب والوحشة الإنسانية الشجية لكنه لا يعدو هذا الهاجس الأولي في الواقع أن يكون ذريعة وحافزاً لعملية الخلق, فلا تلبث القصة والقاصة معا ومنذ اللحظة الأولى من تشكيل النصوص أن يمتصا هذا الهاجس الإنساني الأول إمتصاصاً كاملاً في الصورة التامة المعبرة للعمل الفني. مما يفسح مجال التأمل الدلالي واسعا عميقا في القصة ولعل هذا آية التمكن الفني والقدرة على التأمل الجمالي في الحياة. إن أكبر ما يميز هذه المجموعة القصصية هذا الشجن الإنساني اللاهف على احتضان لحظات التخثر والانقطاع والتمزق في عمق النسيج الإنساني والوطني، إنها أشبه بسيرة ذاتية إنسانية تملكت كل مقومات الفن وشروطه القاسية، لذا نرى الكاتبة تكتب بوضوح شديد, وبسلاسة مرهفة, وبأسلوب مفصل جميل. تكتب كأنها لا تكتب فإذا دققت فيما كتبته وجدت رؤية جمالية ممتدة، وأرضية معرفية كافية. في هذه المجموعة تقدم سهير السمان صوتها الأنثوي الخاص الفريد في رؤية أجواء الموت والحرب والاغتراب من حولها فتقدم رؤية طازجة ساخنة لأشجان وآلام الحياة التي تعيش نبضها المرئي واللامرئي، فتحمل عدستها التصويرية اللاهثة المركزة مجسدة روح العالم من حولها فكل قصة من قصصها عمل مكتمل ودنيا مبتدعة فريدة في ذاتها، تجمع بين البساطة المتناهية والعمق النافذ الأصيل، وذلك راجع إلى أن قصصها تحمل قدرا غير قليل من الاكتمال الجمالي والاكتناز المعرفي العضوي القادر على تجسيد روح الحياة وغموضها الحلو المرهق. فالكاتبة تملك عينين مرهفتين ذكيتين نافذتين تلونان الحياة الإنسانية برؤية جديدة وتخلقها خلقاً جديدا. أضف إلى ذلك هذه القدرة التناصية الوافرة في جسد نصوصها فقد تناصت الكاتبة مع نصوص شعرية وسردية كثيفة على طوال البناء الفني للقصص، ولعل هذا يتضح لنا في جميع نصوص العتبات المنثورة على طوال الشكل القصصي، خاصة نصوص الشعر التي استثمرتها الساردة بجدارة جمالية في مبتدا كل لوحة سردية عبر مجموعتها القصصية بأكملها، فلا تخلو قصة من تضمين نصوص سردية وشعرية، لكن الأهم في نظرى هنا قدرة القاصة على أن تجعل من هذه النصوص المقتبسة وحدة شعورية وتخييلية عضوية داخل بنية القص نفسها، فكأن هذه النصوص الشعرية والسردية التي طعمت بها مطلع كل قصة من مجموعتها تمثل الجذر المجازي العميق القادر على فتح أبواب السرد واسعة على أفق التأمل والتأويل والتعدد، فالمتأمل في النص القصصى يلحظ أن الساردة كانت معنية على طوال مجموعتها بإيراد نصوص شعرية وسردية مختارة من كتاب عالميين كبار تتناص مع عوالمهم الإنسانية والتخييلية الباذخة، مما جعل نصها القصصي الماتع يطل على القصة والعالم والقارئ دفعة واحدة، فقد أطلّ علينا السرد من خلال أفق الشعر وهو أفق جمالي ومعرفي مغاير، وقد مثل هذا نصا تشكيليا موازيا فتح أفقنا القرائي والتأويلي على أبواب معرفية وتخييلية وإنسانية مغلقة مسكوت عنها في بنية السرد. إن الشعر يتمتع بتكثيف مجازي وتقطير استعاري وقد دفع هذا أفق هذه المجموعة القصصية على فضاءات البوح والتأويل والتعدد فباح الشعر بما لم يبح به السرد من قبل، وكأن هذا التلاحم العضوي والتناغم الجدلي بين بنية أفق السرد بوضوحه وأفق الشعر بغموضه قد فتحا معا أبواب التأويل مما عمق من حركة السرد وزاد من حيويته بين النص والراوي والقارىء مما يجعل منا مشاركين فعليين بامتياز في بناء الحدث السردي مع الكاتبة، فنرسل خيالاتنا وهمومنا قلقة خصيبة متراوحين بين عوالم القص النهاري وعالم الشعر المجازي الليلي، متأملين مأولين حتى لتتفجر الأحداث والشخصيات والوصف والأزمنة والأمكنة بطاقات تشكيلية دلالية جديدة قادرة على كشف الوجه المعلق المحير في حياة اللغة والواقع والشخصيات والأحداث. تأتي القصة القصيرة عند سهير السمان أشبه بومضة فلاشيه مركزة، أو موجة تمتد ثم تنحسر مبينة عن عمق خفي، أو ضربات فرشاة حاذقة تجسد بذاخة الجمال في أضيق حيز ممكن، فدائماً تأتي قصصها مائجة بهذا التركيز البالغ، القادر على الإيحاء والإشعاع الكلي، ومن هنا أستطيع أن أقول إن مجموعة "يحدها من الشمال" كريستال قصصي مشع، فدائماً الكاتبة تضغط تشكيلاتها القصصية إلى أقصى توتر ممكن معربة عن عمق تصويري جمالي قادر على الإشعاع المتعدد الضوء والإيماء، ونظراً لأن فن القصة القصيرة فن صعب مراوغ، وقلما نجد فيه الأن من يكتب عن أصالة ذاتية وجدارة تخييلية إذ يقع هذا الفن الصعب في مفترق طرق جمالي وعر حيث يأخذ من الشعر تكثيفه وتركيزه وقوة تصويره، ومن الرواية حلاوة السرد، ومن المسرحية كثافة الحوار فتأتي القصة مصورة حالة إنسانية، أو انطباعاً وجودياً، أو مشهدا مكثفاً، أو لقطة إنسانية مركزة في أضيق مساحة ممكنة. لا تستطيع أن ترى في تشيكلات البناء الداخلي لهذه المجموعة القصصية جزءاً أهم من جزء، ولا شكلاً مقدماً على مضمون، أو مضموناً مقدماً على شكل، ولا ترى حتى هذا التراتب والترتيب التقليدي المعهود للبناء القصصي من بداية وأزمة وحل، بل هي لوحات لونيه وجودية فيها حيوية الخلايا الحية وتفاعلها وتشابكها وتعددها في وقت واحد، فكل ما في الخلية هو الخلية نفسها، وكأن قصص سهير السمان المترعة بالشجن والحنين والاغتراب والموت قد نبعت من ذاتها، وانقادت لفكرتها العميقة وحدسها الروحي الأصيل، فانسابت تلقائياً في مفردات تشكلها الجمالي من حدث وشخصية ووحدة شعور حتى خلقت دلالنها الإنسانية والوجودية الكلية. وإذا كانت القصة القصيرة عند سهير السمان قد خضعت للتكثيف الجمالي المركز المشع، فإنها قد أخضعتها أيضاً لقدرتها على الانتقاء والتشكيل معاً، وهما قدرتان فنيتان لا تفارقان هذه المجموعة القيمة: القدرة على انتقاء المنظور الرؤيوي الإنساني، وهذا أمر يوجهه رؤية الكاتبة للعالم أو حدسه الجمالي الخاص به، ثم القدرة على التشكيل التي مكنت الكاتبة من السيطرة على نسيج قصصها وخلق تفاصيلها البنائية المتعددة، وتوجيها إلى مسار جمالي ودلالي خاص. إن القدرة على الانتقاء والتشكيل لدى السمان هما أعمق ما يميز هذه المجموعة الشجية الخصيبة، وقد بلغا حداً بعيداً من السيطرة التشكيلية جعلتني أرى قصصها وكأنها استقطار جمالي ودلالي وجودي فريد لحالة القلق والاغتراب والتخثر الإنسانى. فالقاصة تلتقط قصصها من جميع ظواهر العالم من حولها، لا فرق لديها بين موضوعات تصلح للقص وأخرى لا تصلح، بل تصير الحياة بكل موجوداتها، وكائناتها، وأشيائها وجوامدها مادة للقص، وقابلة للإشعاع الجمالى، فقصة تجسد التخثر الإنسانى في (نصف وجه) وقصة تجسد وأد الطفولة الحلوة الممراحة في جسد بلقيس في قصص (سيقان بلقيس) و(تين شوكى) و( حقيبة) و(ضربة شمس). وقصة تجسد العنف الذكوري القبلي في قصة (اغتيال) وقصة تجسد الشجن الإنسانى الرهيف إذ ينفصل الإنسان مجتزا من لحم وطنه، فيعيش شريدا وحيدا في قصة (بلا أرض) و(احتراق). وقصة تجسد عمق أحزاننا الميتافيزيقية الذاهلة في حنايانا مثل قصص: (حيا بك) و(تسجيل دخول) اللتان تجسدان جدل الوحشة والغربة بين عقلانية السائد الرتيب وشرود الروحي المهيب خارج أية عقلانية وهمية مسبقة، ونجد ذلك أيضا في قصة (محاولة أخرى للحياة) التي تجسد جسارة الروح الإنساني في بناء روعة الحياة من خلال القدرة على الحلم بعيدا عن رهق الخوف من ممارسة الوجود واجتراح الحياة. تقول الساردة عن بطلتها التي ثناها والدها عن حلمها فأبطل جسارتها الطفولية الحلمية: "وبعد أن نلنا قسطا من العقاب دون أن يعلم أحد سرنا، نسينا تلك الأمنية، وبقينا كما نحن بشرا بقدمين، وأصبح الحلم فقط محاولة أخرى للحياة". ونفس القدرة على الحلم والرغبة الدنيوسية الفائرة بالحياة نجدها في سيقان بلقيس التي عشقت الرقص طفلة مرحة طليقة، بينما والدها الجهم يقف لها بالمرصاد من خلال أقانيم القبلية وأصنام العشيرة فيمنعها، لكن من يستطيع أن يقيم الحواجز بين النهر وتدفق جريان مائه؟ الجسد روح والرقص لغته المخصوصة الباذخة، تصف الكاتبة حياة جسد بلقيس ممثلا في ساقيها رمزي الحياة والطلاقة، ترسم الكاتبة حياة الجسد حين يمارس أسراره المدهشات داخل سراديبه السرية الطيارة الممراحة، بعيدًا عن عنف ملابسه وحواجز انتماءاته وعقبات قيمه وتحجر عاداته وانصياعه لنسق القيم الشائعة، فالرقص عرينا الأول البديع. الرقص حياة الجسد فهو شهيقه وزفيره، يتنفس الجسد رقصًا فيعلو ويهبط يحيا ويتنفس هواءه الطلق الحر الممراح، فتفصح أجسادنا عن أروع ما فينا والأروع، فى هذه القصة البديعة ينصهر جسد بلقيس بجسد الطبيعة فيعيدنا السرد إلى كينونتنا الجسدية الأولى المشعة. لقد استطاعت سهير السمان في هذه المجموعة القصصية البديعة أن ترتحل بخيالها الإنساني الخالق في طوايا العالم سواء، داخل الذات وخارجها على السواء، لقد استطاعت الكاتبة أن تكتشف بقوة خيالها وعمق معاناتها الإنسانية الموجعة قارة الأوجاع الإنسانية الخفية، فتكتشف نبضها وهجسها وغربتها ووحشتها وأشواقها اللاعجة بناسها ومكانها وزمانها وأعماقها البعيدة، لقد استطاعت الكاتبة أن تحرر الروح الإنسانية من كوابلها اللامرئية المسكوت عنها من خلال هذه القدرة السردية الباذخة على الكشف والاكتشاف.
مشاركة :