مفكرون خالدون| زكى نجيب محمود.. وأسس التفكير العلمى

  • 4/25/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

"العلمُ بمنهجِه يرسمُ لنا الصورةَ الدقيقةَ لِما هنالِك، وما كانَ وما سوفَ يَكُون، ولنا بعدَ ذلكَ أنْ نتَّخذَ لأنفسِنا الموقفَ الذي نَرْضاه، فمَنْ يَدري؟ قد تكونُ نازِعًا برُوحِك إلى تصوُّفٍ بغضِّ النظرِ عمَّا كانَ وما هو كائنٌ أو سوفَ يكون." هذه المقولة واحدة من المقولات المهمة التي سطرها أبرز فلاسفة العرب ومفكريهم في القرن العشرين، وأحد رُوَّاد الفلسفة الوضعية المنطقية، في كتابه "أسس التفكير العلمي". إنه زكي نجيب محمود الذي ولد في قرية «ميت الخولي عبد الله» بمحافظة دمياط في أول فبراير سنة ١٩٠٥م، والتحق بكُتَّاب القرية، وعندما نُقِل والده إلى وظيفةٍ بحكومة السودان أكمَلَ تعليمَه في المرحلة الابتدائية بمدرسة «كلية جوردون»، وبعد عودته إلى مصر أكمَلَ المرحلةَ الثانوية، ثم تخرَّجَ في مدرسة المُعلمين العليا بالقسم الأدبي سنة ١٩٣٠م، وفي سنة ١٩٤٤م أُرسِل في بعثةٍ إلى إنجلترا حصل خلالها على «بكالوريوس الشرفية من الطبقة الأولى» في الفلسفة من جامعة لندن؛ لينال بعدَها مباشَرةً درجةَ الدكتوراة في الفلسفة من كلية الملك بلندن سنة ١٩٤٧م. وفي هذه الفترة كان يشكَّلَ الموقفُ من التراثِ العربيِّ مُعضِلةً فكريةً كبيرةً ليسَ للدكتور "زكي نجيب محمود" وحدَه، بل للكثيرِ من المفكِّرين أيضًا؛ فما بين دعواتٍ لهدمِ التراث، وأخرى تُنادِي بتقديسِه، يقفُ زكي نجيب محمود موقفَ الباحثِ الفاحِص. ويُمثِّلُ كتابه "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري" تغيرًا جوهريًّا في موقفِه من التراث، فبينَما نادى في كتاباتِه السابِقة مثل "خرافة الميتافيزيقا"، و"نحو فلسفةٍ علمية" باستبعادِ التراثِ العربيِّ من النهضةِ الفكريةِ لِما به من خرافات، إذا بهِ يَتراجعُ عن موقفِه هذا بعدما أدرَكَ أن التراثَ يُمكنُ الأخذُ منه والاستفادةُ بما هو معقولٌ فيه، ويتلاءمُ مع العقلِ والمنطِق، دُونَ أن يُجبِرَ القارئَ على التسليمِ برأيِه، فترَكَ له حريةَ الاختيارِ حينَما ضمَّنَ في كتابِه ما هو معقولٌ وما هو لا معقولٌ من وجهةِ نظرِه في تراثِنا العربيِّ الفكري. وحينما وقَعت الثقَافة والمثقفون العرب في فَخ التَّنافُرِ حين تَم إِعلان الحرب على كل ما هو قَدِيم، واعتِباره شيئا ولى زمانه، وانقضت أوقاته، وماتَ زَخَمهُ بموت رجاله مِن ناحِية، والإِقبالِ عَلى ثَقافَةِ الغَربِ إِقبالَ العَطشَى المُعدِمِينَ مِن ناحِيةٍ أُخرَى. وَمَضَى زَمانٌ وكُلُّ فَريقٍ يَسُوقُ لِمُرِيدِيهِ ما يُثبِتُ صِحَّةَ ما ذَهبَ إِلَيه، وبَينَ هَذا وذاكَ ضاعَتِ الثَّقَافةُ العَرَبيَّة، وتاهَ المُثقَّفُونَ وَسطَ مَعرَكةِ الجَدِيدِ والقَدِيم. حاول زكي نجيب محمود في كتابه "تجديد الفكر العربي" أنْ يُجِيبَ عَن سؤال ملِح يَبحَثُ مِن خِلالِهِ عَن طَرِيقٍ يَقُودُنا إِلى ثَقافة موحدة متسقة، تَندَمِجُ فِيها الثَّقَافةُ المَنقُولةُ عَنِ الغَربِ وتِلكَ التِي وَرِثنَاها عَن تُراثِنا العَرَبيِّ الأَصِيل. أما كتابه "في حياتنا العقلية" والذي يقول فيه: "لَوْ أنَّ كَلَّ تَغيُّرٍ يَطْرَأُ عَلَى الْحَياةِ الإِنْسانِيَّة يَسْتَتبعُ في ذَيلِهِ فَوْرًا نَمطًا جَدِيدًا مِنَ الفِكْر، يُسايِرُ ذَلِكَ التَّغيُّرَ الظَّاهِرَ عَلَى وَجْهِ الْحَيَاة؛ لَمَا وَقَعَ الإِنْسانُ فِيما يَقَعُ فِيهِ دائِمًا إبَّانَ مَراحِلِ الانْتِقالِ الكُبْرَى، مِن تَعارُضٍ بَيْنَ حَياتِهِ الخارِجِيَّةِ البَادِيةِ أَمامَ أَعْيُنِ النَّاس، وَحَياتِهِ الدَّاخلِيَّةِ الَّتي يَعِيشُها مَعَ نَفْسِه كُلَّما فَكَّرَ أَوْ شَعَر." كتب هذا الكتاب بعدما أَفْرَزَتِ الْحَربُ الْعَالَميَّةُ الأُولَى، ومَا تَلَاها مِن أَحْدَاثٍ جِسامٍ هَزَّتْ أَرْكانَ الْمُجتمَعِ المِصْرِي، حَرَكةً عَقْلانِيَّةً كُبْرى، وظَهَرَ ذَلِك جَلِيًّا فِي الإِنْتاجِ العِلْميِّ للكَثِيرِ مِن رُوَّادِ هَذِهِ الفَتْرةِ مِن تارِيخِنا، كانَ مِنْه: «الإِسْلامُ وأُصُولُ الْحُكْمِ» لِعلي عَبدِ الرَّازِق، و«في الأدَبِ الجَاهِلِيِّ» لِطَهَ حُسَيْن. حيث يُقارِنُ زكي نجيب محمود بَيْنَ المُثَقَّفِ المُنْعَزِلِ الَّذِي يَنْعَمُ بِثقَافتِهِ لِذَاتِهِ فَقَطْ وَيَبْنِي مَدِينتَهُ الْفَاضِلَةَ خَارِجَ الْوَاقِعِ الاجْتِماعِي، وَالْمُثقَّفِ الثَّورِيِّ الَّذِي يُغَيِّرُ ما حَوْلَهُ في الحَياةِ بِمَا اكْتَسَبَهُ مِن ثَقَافة. يُوضِّحُ كَذَلِك مَا تُحْدِثُهُ ازدِوَاجِيةُ القِيَمِ والصِّرَاعُ الدَّاخِلِيُّ لَدَى الإِنْسانِ بَيْنَ ما هُوَ قَدِيمٌ ومَا هُوَ جَدِيد، مُتَحدِّثًا عَنِ الفَلْسَفةِ ودَوْرِها في هَذَا الصِّراعِ الدَّائِر، خاتِمًا مُؤَلَّفَهُ بِمُناقَشَةِ المَنْهَجِ المَارْكِسِيِّ وَالحَلِّ الاشْتِرَاكِيِّ لِمُشْكِلةِ التَّخَلُّفِ الاقْتِصادِيِّ والاجْتِماعِي. وفي كتابه "هموم المثقفين" يناقش تشكَّلُ البيئة الثقافية حيث تنحدر وتزدهر وفقا لِما يَشغلُ الرأيَ العامَّ الثقافيَّ من أفكار، وما يَنتجُ عن رُوَّادِه من كِتابات تُعبِّرُ عن اهتماماتِهم، وما يَملأُ عليهم حياتَهم، وأول ما يدفع الحركةَ الثقافيةَ إلى الضمور هو انحصار كامل اهتمامها حول القضايا السياسية المحضة، أو الذهاب نحو إرضاءِ القارئ فحسْب دونَ ترْكِ أثر فيه بعد قراءةِ مقال أو سماعِ حديث من أحدِ المثقَّفين. ويقول: "إنَّه لا رَجاءَ لنا في إعادةِ تشكيلِ الحياةِ من جُذورِها وفي صميمِها، إلَّا أنْ يكونَ ذلك على أَيْدي المثقَّفين، الذين لا يُعنَوْن بالأمورِ السابحةِ على الأسطحِ عنايتَهم بالمحرِّكاتِ الكامنةِ في دخائلِ النفوس".

مشاركة :