ما هي الأسطورة؟ ما هي سماتها الأساسية؟ ما هو دورها وما هي وظيفتها في المجتمعات القديمة؟ هذه الأسئلة وغيرها مما يشابهها ويدور في فلكها، والتي واصل المفكر والفيلسوف الفرنسي لوسيان ليفي - برول طرحها على نفسه وعلى فكره طوال ثلاثة عقود من السنين على الأقل، تمكّن في النهاية من الإحساس بأنه وجد إجابات عنها، في الكتاب الثالث من ثلاثيّته الشهيرة التي صنعت له مكانة في عالم الفكر الأوروبي خلال النصف الأول من القرن العشرين. كان عنوان الكتاب «الأسطورة البدائية»، وهو صدر في عام 1925. واعتُبر صدوره في تلك السنة، استكمالاً وتطويراً، واستنتاجاً، لمجموع الطروحات والأفكار التي كان ليفي - برول نفسه، طرحها في الكتابين الأولين من هذه «الثلاثية»: «الوظائف الذهنية في المجتمعات الدنيا»، و «الذهنية البدائية». علماً أن أول كتب الثلاثية كان قد صدر عام 1910، فيما صدر الثاني عام 1922. ونذكر هنا أن كتاب ليفي - برول الأول «الوظائف الذهنية في المجتمعات الدنيا»، تُرجم إلى الإنكليزية عام 1926 بعنوان «كيف يفكر البدائيون؟»، ليثير ضجة كبيرة في الحلقات الجامعية الأنغلو - ساكسونية، لا سيما تلك المناوئة للأفكار المحافظة والساعية الى أنسنة جديدة للآنثروبولوجيا، إذ شعرت هذه على الفور بأن الباحث الفرنسي إنما يرمي إلى تقسيم العقل الإنساني - أو ذهنية البشر - إلى فئتين: البدائية والغربية، معلناً أن العقل البدائي لا يمكنه التفريق بين ما هو خارج الطبيعة وما هو واقعي، إلى درجة أنه يستخدم «المساهمة الغيبية» بغية التعامل مع العالم ووجوده في هذا العالم... ناهيك بأن العقل البدائي، في رأي ليفي - برول، كما فهمه زملاؤه البريطانيون والأميركيون على الأقل، لا يبالي بمفهوم التناقضات. أما العقل الغربي فإنه على العكس من هذا يستخدم التأمل والمنطق. وهذا كلّه كان يعني، في نظر تقدميي الأنغلو - ساكسون، أن ليفي - برول هو مثل غيره من منظري الربع الثاني من القرن العشرين، يؤمن بلاهوت تاريخي تطوّري يقود من العقل البدائي إلى العقل الغربي. والغريب، أن عالم الأناسة الكبير أنانس بريتشارد، كان في ذلك الحين في مقدّم منتقدي ليفي - برول، ولو عبر تأكيده أن العقل البدائي يبالي بالتناقضات، كالعقل الغربي تماماً، لكن بطريقة مختلفة. وفي معرض انتقاده ليفي - برول، لمّح بريتشارد يومها إلى دنو فكر الباحث الفرنسي من بعض النظريات الفاشية. غير أن ليفي - برول، الذي رحل عن عالمنا عام 1939، ردّ على ذلك الاتهام بنفيه معلناً وقوفه أصلاً وفصلاً ضد تلك الفاشية حتى من قبل أن تصبح الفاشية الفكرية، ملعونة بوصفها مسؤولة عن الانحطاط الإنساني والمذابح، كما تجلّى ذلك إثر وصول نازيي هتلر الى الحكم في ألمانيا وصنائعهم في مناطق أخرى، ثم خلال الحرب العالمية الثانية. > غير أن دفاع ليفي - برول عن نفسه لم يعنِ أنه تخلّى عن جوهر فكره المفرِّق بين العقليّتين، كل ما في الأمر أنه وجد لزاماً عليه أن يدلي بشيء من التوضيح. ومن هنا، كانت أهمية كتاب «الأسطورة البدائية» (أو في شكل أكثر تحديداً، «الميثولوجيا البدائية»)، الذي استخدم فيه الأسطورة، على اعتبار أنها العنصر الأكثر تعبيراً عن العقلية البدائية، لتأكيد فكرته، ومن ثم تخليصها من أية شائبة قد تربطها بفكر غربي فاشي التوجّه. > من أجل الوصول إلى هذا الهدف، انكبّ المؤلف على دراسة بعض الأمثلة المستقاة من الأساطير البدائية لدى العديد من الشعوب، بخاصة لدى الأستراليين القدامى والنيوغينيين. ومنذ بداية كتابه، أوضح ليفي - برول أنه لا يتوخى وضع كتاب في تاريخ الأديان أو في التاريخ السوسيولوجي لتلك المناطق. بل أوضح بداية، أن هدفه إنما هو «الدنو من الميثولوجيا البدائية» في علاقاتها بالطبيعة، وفي توجيهها الذهنية الخاصة بـ «البدائيين». وهو، انطلاقاً من هذه الرغبة، وصل إلى طرح الأسئلة العديدة المرتبطة بالأسطورة، والتي جاءت في مفتتح هذا الكلام. وفي معرض محاولة الباحث الإجابة عن هذه الأسئلة، استند أساساً إلى كتابات سلفه الكبير دوركهايم، وكذلك إلى نظرياته هو الخاصة المتعلّقة بما سماه في كتابه السابق «الذهنية البدائية»، حتى وإن كان قد واصل، وحتى في نصوصه الأخيرة التي نشرت عشر سنوات بعد وفاته في عنوان «كراسات ليفي - برول» (1949)، تسميتها في سياق النصوص «الذهنية الما قبل منطقية»، وذلك بالتعارض مع وصفه الذهنية الغربية اختصاراً بـ «الذهنية المنطقية». إن أول ما أكده الباحث في كتابه الجديد، إذاً، بعد تعريفه الأكاديمي للأسطورة، إنما هو «سرّية» هذه الأسطورة. فهي لا تكون أبداً مشاعة ومتداولة، حيث أن عجائز القوم هم الوحيدون الذين يمتلكونها ويمتلكون تفسيرها وربطها بحركة الناس اليومية طقوساً وعادات وأدياناً وما شابه. علماً أن «القبيلة كلّها ستفنى وتهلك إذا ما دُنست الأسطورة... لأن الأسطورة حين تُدنس، تبتذل وتفقد بالتالي أساس قوتها الفاعلة». ومن هنا التأكيد التالي أن الأسطورة مقدسة. وهي مقدسة بخاصة لأنها جزء من التبجيل - والعبادة بالتالي - الذي «يحيط بالمعارف الفوق طبيعية التي يكتسبها المرء خلال نومه من خلال رؤى الأحلام»، وفق تعبير ليفي - برول نفسه. وانطلاقاً من هنا، تمكن ملاحظة كيف أن الباحث يلاحظ من فوره أن المصدر الأول والأوثق للأسطورة إنما هو الحلم، الذي يتوازى في هذا مع كل ما هو فريد وغريب في الطبيعة أو خارجها، هذا الفريد الغريب الذي غالباً ما تكون له دلالة رمزية معيّنة يمكن الحكماء تفسيرها وتحديدها، ما يجعلها بسرعة جزءاً من الأسطورة. وهنا لا يفوت ليفي - برول أن يؤكد لنا أن القوى الخارجة عن الطبيعة ليست شخصية ولا هي غير شخصية في الوقت نفسه، بيد أن «الخلط والعجز عن التحليل اللذين تتميز بهما الذهنية البدائية، يمنعان الفصل بين هذه القوى اللاطبيعية، وبين مجريات الحياة اليومية للناس، أي عالم الخبرة الدنيوية»، وفق التعبير العلمي الذي يستخدمه ليفي - برول. وبهذا، يكون صحيحاً أن عالم الخبرة الدنيوية اليومي، وعالم القوى الفوق طبيعية، عالمان متمايزان. غير أن الذهنية البدائية تكون عاجزة عن إدراك ذلك التمايز. وبالتالي، ينشأ الشعور بأن التمايز لا يعني الانفصال، بل يكون العالمان متّصلين ببعضهما البعض على رغم تمايزهما. أما الأسطورة، فإنها تتنطّح هنا لتؤمِّن عملية العبور من عالم إلى العالم الثاني، موحّدة بينهما، كجزء من الحياة نفسها. حتى وإن كان من المنطقي القول أن للأسطورة، على أي حال، زمنها وحيّزها الخاصّين، ما يصنع حالاً من الخروج عن الزمان والمكان اليوميين، للدخول في حال من الزمان والمكان المرتبطين بالأسطورة، وقد أضحت الصورة الرمزية - إنما اليومية - للتعامل مع الكون. > طبعاً قد يبدو هذا التحليل كلّه، اليوم، جزءاً أساسياً من التعامل الأكاديمي مع اليومي والدراسات الأنثروبولوجية المعمقة، حتى من دون أن تسمه أية أبعاد أيديولوجية وأحكام مسبقة. لكنه خلال الربع الثاني من القرن العشرين، في أزمان كانت لا تزال استعمارية يتم فيها الحديث العنصري من دون أن يتّخذ أية سمات عنصرية بعيدة المدى والمفعول، كان مثل هذا الكلام يثير سجالات وصراعات. ولوسيان ليفي - برول (1857 - 1939) أثار طوال حياته الكثير من السجالات والصراعات، التي أدلجت أفكاره، وغطت تماماً على قيمتها العلمية التي اتسمت بتجريبية ميدانية مميزة. مهما يكن، فإن خصوم ليفي - برول أنفسهم اعترفوا له، لا سيما في نهاية حياته الطويلة، بأهميته في مجالات التقريب بين علم الاجتماع وعلم الأعراق وعلم النفس، وذلك من خلال كتبه التي نالت شهرة كبيرة - على قلّة عددها - وتُرجمت إلى لغات عدة. ومن بين هذه الكتب، إضافة إلى ما ذكرنا: «الروح البدائية» (1927)، «الما فوق طبيعي والطبيعة في الذهنية البدائية» (1936)، و «التجربة الصوفية والرموز لدى البدائيين» (1938).
مشاركة :