في معنى الدولة الدينية

  • 9/26/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لم تكن الدعوة الراهنة التي أطلقها رأس الدولة المصرية بضرورة تجديد الخطاب الديني هي المرة الأولى التي تنطلق فيها مثل هذه الدعوة من رأس السلطة السياسية. فقد حدث في منتصف القرن التاسع عشر أن أدرك رأس السلطة السياسية في مصر (وهو الخديوي إسماعيل) احتياج بلاده إلى نظام قانوني وتشريعي يتسع للمعاملات الجديدة الجارية فيها آنذاك، فاتجه الرجل مباشرة إلى شيوخ الأزهر وعلمائه، طالباً تأليف كتاب في الحقوق والعقوبات موافق لحال العصر، سهل العبارة مرتب المسائل على نحو ترتيب كتب القوانين الأوروبية، ولسوء الحظ، فإن الحال التي كان عليها الأزهر الذي اختار محمد علي أن يتركه على حاله مهملاً إصلاحه، لم تسمح لعلمائه بالتجاوب مع هذا المطلب، وبما أدى إلى إنشاء المحاكم الأهلية، واعتماد الحكومة على قوانين فرنسا، وإلزام الحكام بترك شريعتهم وحرمانهم من فوائدها. ورغم أن الحكومة قد أبقت على المحاكم الشرعية (التي يجرى العمل فيها بأحكام الفقه الموروثة) إلى جوار المحاكم الأهلية (التي يجرى العمل فيها بقوانين فرنسا)، فإنه قد ظهر للناس - كما قال محمد عبده - أن المحاكم التي يجرى العمل فيها بقانون فرنسا كانت أضمن للحقوق وأقرب للإنصاف من المحاكم التي يجرى العمل فيها بالأحكام الموروثة من عصر الجمود المملوكي العثماني، وبالطبع فإن ذلك يعني أن إهمال الإصلاح كان هو السبب المباشر في إسقاط حكم الشريعة، وبما يترتب على ذلك من أن التقاعس عن إنجاز الإصلاح لا يؤدي فقط إلى إعاقة التقدم الحاصل في حياة الناس، بل إنه يؤدي إلى تهديد التراث الديني نفسه. وبعد أكثر من قرن ونصف على طلب الخديوي إسماعيل من المؤسسة الدينية تجديد الشريعة، فإن الرئيس السيسي هو الذي يدعو الآن إلى ثورة في الموروث الديني. وليس من شكٍ في الحال التي أصبح عليها الأزهر تحت القيادة المنفتحة لشيخه الكبير قد جعلت علماءه أكثر استعداداً للتجاوب مع الدعوة إلى إحداث ثورة في الموروث الديني، وإذا كان فضيلة شيخ الأزهر قد بادر - تأكيداً لانفتاح عقله - إلى دعوة المثقفين (مصريين وعرباً وحتى غير عرب) للإسهام مع شيوخ الأزهر وعلمائه في إنجاز مهام التجديد والثورة، فإن على المرء أن يشكر للشيخ الجليل دعوته الكريمة، ويحث المثقفين على التجاوب مع هذه الدعوة على نحو إيجابي وفعال. وتتأتى أهمية إسهام المثقفين من حقيقة أن الثورة في الموروث وتجديد خطابه هي عمل معرفي في الأساس، وبما يعنيه ذلك من لزوم أن يمتلك من يتصدون له المنهجيات والأدوات المعرفية التي يتمكنون معها من إنجازه، وضمن هذا السياق، فإنه سيكون مطلوباً من المثقف أن يسهم في ضبط المفاهيم وتحديد دلالاتها لكي لا يتم الاكتفاء بمجرد ترديد المفاهيم من دون أدنى وعي بحمولاتها المعرفية التي يستحيل للمفاهيم أن تنتج في غيابها، وكمثال، فإن متابعة لاستخدام المفهوم الأكثر رواجاً في التداول الراهن، وهو مفهوم الخطاب، تكشف عن أن الكثيرين يستخدمونه بدلالة لا يتجاوز معها حدود مجرد الخطابة، وبحيث يبدو وكأن تجديد الخطاب لا يتجاوز مجرد تحديث الخطابة وأسلوب القول، وحين يدرك المرء أن الخطاب يتعلق بجملة الأصول المعرفية التي تقف وراء الأقوال وتجعلها ممكنة، فإن ضبط المفهوم يكون في حاجة إلى نوع من الإعداد المعرفي الذي يتوفر للمثقف، عدا عن الداعية، وهو ما يكاد أن يكون الأصل في دعوة شيخ الأزهر بضرورة تشارك المثقفين مع مشايخ الأزهر في إنجاز مهام التجديد. ولعله يلزم التنويه هنا بما يبدو من التحول في جوهر الدعوة للتجديد، إذ يبدو أنه إذا كان احتياج الدولة المصرية للتجديد قد اتصل بما يخص المعاملات الجارية في الواقع المصري على مدى القرن التاسع عشر، فإن احتياجها الراهن إنما يتعلق بضرورة تجديد طرائق التفكير واشتغال العقل، على النحو الذي يتيح لمصر امتلاك المواطن الحديث القادر على الدخول بها إلى عصر حداثتها الحقة، ولا مجال للقول إن صدور الدعوة للتجديد عن الدولة يجعل التجديد محكوماً بتصورات السلطة السياسية ومطالبها، حيث يبقى أن الدولة في العالم العربي تظل - وحتى إشعار آخر- هي الجهة القابضة على مهماز التحديث، لأنه لا وجود لطبقة قوية تكون قادرة على تحويل التحديث إلى قضية مجتمعية، على نحو ما فعلت البورجوازيات الأوروبية، ولعل ذلك ما تشهد عليه التطورات الحاصلة في الوقت الراهن، والتي لا تكاد تبين إلا عن الانفجارات المتواترة للمكبوت الاجتماعي التقليدي، بكل ما يسكنه من طائفية وتعصب ولا عقلانية.. إن ذلك يعني أن على الدولة الراهنة في العالم العربي أن تقوم بالمهام التي كانت موكولة إلى البورجوازيات الحديثة، ويرتبط ذلك بالطبع بهشاشة التشكيلات العربية المتبرجزة وبؤس وعيها، على النحو الذي يحول دون أن تكون قاطرة للحداثة في إطار مجتمعات يغلب عليها التقليد. إذاً فالأمر يتعلق بدولة يكون مطلوباً منها - في السياق العربي - أن تهيئ الشروط اللازمة لتبلور البورجوازية الحارسة لسيرورة التحديث (العقلي والمادي)، على عكس ما كان عليه الحال - في السياق الأوروبي - من نشوء طبقة بورجوازية قوية كانت هي التي قادت سيرورة التغيير في المجتمع والدولة، والعجيب أن يكون ذلك هو ما نبه إليه أحد كبار دعاة الليبرالية المصرية، حيث مضى طه حسين - في كتابه مستقبل الثقافة في مصر - إلى أن النتيجة لهذا التفصيل الطويل أن الدولة هي المسؤول الأول، والمسؤول الأخير، والمسؤول قبل الأفراد والجماعات، وبعد الأفراد والجماعات، عن تكوين العقلية المصرية تكويناً يلائم الحاجة الوطنية الجديدة التي صورناها تصويراً نظن أنه دقيق كل الدقة، ملائم كل الملاءمة، حين قلنا إنها تنحصر في تثبيت الديمقراطية وحياطة الاستقلال. ولعل ما يبدو من أن الفيالق الخارجة على الدولة الراهنة لا تملك ما تقدمه لجمهورها إلا ما يضعه خارج الزمان والعصر، ما يؤكد أن إصلاح الدولة القائمة - وليس نقضها - هو ما سيؤول إلى جعل العربي جزءاً من العصر فعلاً.

مشاركة :