تونس – يتحسر التونسيون هذه الأيام، وفي كل الأيام تقريبا منذ قيام الانتفاضة، على فقدان بلادهم ريادتها الاقليمية في مجالات عدة، لكن يبدو ان البلاد استعادة اخيرا أمجادها ومكانها في صدارة الأمم والدول من حيث لم يتوقع أحد مع نسب وفيات قياسية جراء وباء كورونا وتفش بلا مثيل تسعى الحكومة الى التهوين من شأنه، مرة بتقديم أرقام مخاتلة ومرة بأنصاف اجراءات صحية تطبّع مع الموت وتدعو للتعايش معه لتتفرغ للعبة الشد والجذب بين الرئاسات الثلاث على الصلاحيات. وللوهلة الأولى تعطي أرقام الحالات الجديدة والوفيات في تونس انطباعا خاطئا بان الوضع الصحي خطير لكن تلك الخطورة التي يمكن تقبلها بصدر رحب على أساس انها قدر محتوم تعاني منه اقوى دول العالم فما بالك بتلك التي لا حول لها ولا قوة ولا مسؤولية ولا مسؤولين. والسبب في هذا الانطباع هو عدد سكان تونس الصغير نسبيا (نحو 12 مليون نسمة) الذي يقزم ابعاد الوضع الصحي. وفيما تداول التونسيون بكثافة خلال الايام الماضية صورا عن محارق الجثث في الهند، وعبر بعضهم عن تضامنه مع ضحايا الوباء في الجانب الاخير من العالم، كانت قراءة موضوعية للارقام كفيلة باثبات ان المجزرة الحقيقة كانت تحصل بالفعل امام انوفهم وحولهم لا في البلد صاحب المليار وربع نسمة. والخميس أكد عضو اللجنة العلمية لمجابهة كورونا (هيئة حكومية) في حوار اذاعي على راديو موزاييك (اذاعة خاصة) أن تونس باتت الدولة الأولى عالمياً من ناحية الوفيات بكورونا في المليون ساكن، والأولى في نسبة الإصابات على إجمالي عدد التحاليل المجراة يومياً. وباحتساب بلوغ تونس مئة وفاة كمعدل يومي في الفترة الأخيرة، فان هذا المعدل اليومي لو تم تكييفه مع عدد سكان الهند يرفع الى اكثر من 11 الف ضحية يوميا فيما لم تتخطى الهند الى الان الثلاثة الاف وفاة يومية. والسؤال هنا، ماذا فعلت حكومة هشام المشيشي لكبح هذا الزحف الغير المسبوق للجائحة؟ في الحقيقة تفضح الارقام ايضا تقصيرا فادحا من المسؤولين في تقديم اي حلول، فتونس تتذيل عن جدارة ايضا ترتيب الدول الاقل تقدما في نسب التلاقيح المنجزة. وحتى الثلاثاء، حصل حوالي 346 ألف تونسي فقط على لقاح ضد كورونا في ظل إمدادات محدودة، ويناهز العدد قرابة 10 % فقط من العدد المستهدف من قبل الحكومة لتطعيم ثلاثة ملايين شخص بحلول نهاية شهر حزيران/يونيو، كما أنها تخطط لتطعيم 5.5 مليون شخص بنهاية العام 2021. ويبدو واضحا ان الوصول إلى نصف هذا العدد مع النسق الحالي للحملة سيكون صعبا جدا، واعترف مسؤولون بوزارة الصحة بوجود بعض المشاكل التقنية في إخطار المشمولين من المواطنين بحملة التطعيم. من جانبه قال رئيس الحكومة هشام المشيشي إن تسريع حملة التطعيم مرتبط أيضا بجلب المزيد من اللقاحات من مخابر عالمية. وتداولت مواقع التواصل صورا لمراكز للتلقيح بطوابير انتظار طويلة، جعل البعض يشببها بمراكز تخصيب للفيروسات. ورغم وضع استراتجية للتلقيح تحدد الفئات ذات الاولوية، بدى واضحا خلال هذا الاسبوع ان رئيس الحكومة وفريقه الوزاري قرروا الضرب بقراراتهم عرض الحائط بحصولهم على الطعوم مبكرا رغم عدم تمتعهم بالاولوية، وهو ما أثار موجة من الانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي. وطبع التذبذب القرارات المتخذة للسيطرة على التفشي، واتسم غالبها بمحاولة تجنب اي صدام مع القطاعات المتضررة من الاغلاق العام مع الحرص على عدم التورط في اي اجراء يلزم الدولة باي نوع من المرافقة المالية او التعويض. هذا الوضع تسبب في ولادة اجراءات مشوهة ومبتورة اثبتت الى الان عجزها عن خفض نسق التفشي، ولا يتم غالبا تطبيقها لغياب اي متابعة او رقابة من الهيئات المختصة. والاربعاء، رغم وصف متحدثة باسم وزارة الصحة نصاف بن علية الوضع الوبائي بـ"الخطيرجدا" خلال ندوة صحفية للاعلان عن قرارات احترازية مفترضة جديدة، لم تتمخض ايام من النقاشات والمداولات عن اي قرارات حاسمة جديدة. وسجلت وزارة الصحة في تونس الأربعاء 119 وفاة جديدة بفيروس كورونا في أعلى حصيلة يومية تسجلها البلاد. وبلغ إجمالي الوفيات وفق آخر تحديث للوزارة 10563، في حين بلغ عدد المصابين الثلاثاء 1729. وتشهد مستشفيات تونس ضغطا كبيرا حيث فاقت نسبة الإشغال في غرف الإنعاش لمرضى كورونا 91 %، حسب وزير الصحة فوزي مهدي، فيما بلغت نسبة الإشغال لأسرة الاوكسيجين 85 % من بين 2200 سرير متوفر. وبعيدا عن تقصير وتقاعس المشيسي وحكومته، يبدو رأسا السلطة الاخرين، رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس نواب الشعب، غارقين تماما في تصفية حسابات قديمة وجديدة ونزاع محتدم على الصلاحيات. ومطلع الأسبوع وجه مجلس شورى حركة النهضة الاخوانية في تونس، الهيئة الأعلى في الحزب الذي يقوده راشد الغنوشي رئيس البرلمان، انتقادات للرئيس التونسي قيس سعيد بسبب تعطل التعديل الحكومي منذ أشهر، محذرا في نفس الوقت من الحكم الفردي على خلفية النزاع الدستوري حول الصلاحيات مع رئيس الحكومة. ولا يزال التعديل الحكومي، الذي أجراه المشيشي منذ كانون الثاني/يناير معلقا بعد رفض الرئيس مراسم أداء اليمين الدستوري لبعض الوزراء بدعوى وجود انتهاك للدستور في إجراءات التعديل، ما يعني ان البلاد تدار بوزراء منهي الصلاحية. وبلغت العلاقة بين الحزب بقيادة زعيمه الغنوشي والرئيس قيس سعيد ذروة التوتر، مع تصاعد النزاع بشأن الاختصاص مع الحكومة والتضارب في تأويل الدستور في ظل غياب محكمة دستورية. وكان آخر النزاعات رفض الرئيس سعيد، وهو استاذ قانون دستوري، الإمضاء على تعديل قانون المحكمة الدستورية المؤجلة منذ 2015 بدعوى وجود خرق للآجال، وصرح في وقت سابق بأنه القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والأمنية، في قراءة تتعارض مع ما يذهب إليه البرلمان. وفي مطلق الأحوال من الواضح ان الطبقة السياسية في تونس تعيش واقعا موازيا لا يلتقي بتاتا حتى بمحض الصدفة مع واقع شعب يخوض صراع حياة. وتشير كل البوادر الى ان توجيه أنظار الرئاسات الثلاث الى الغول الوبائي والتحديات الاجتماعية الجاثمة اصلا على صدور التونسيين طيلة عشرة سنوات يبدو مطلبا صعب المنال لن يتحقق في مستقبل قريب بلا تغيرات جذرية في شخوص اللاعبين السياسيين وفي قوانين اللعبة السياسية ذاتها.
مشاركة :