ازدادت ظاهرة العنف الإجرامي، والمتجسدة في الاعتداءات والسرقات والقتل والتعنيف، خطورة خلال السنوات الأخيرة في الأوساط التونسية. وهدّد وجود المنحرفين والمجرمين في مختلف الأماكن أمن التونسيين وسلامتهم، في وقت يجمع فيه خبراء ومتابعون على أن مقاومة الظاهرة تكمن في تجاوز الأزمة الشاملة التي تعيشها البلاد. أثار تواتر جرائم السطو المسلح والقتل والتعنيف جدلا واسعا في تونس، وكشفت هذه الظواهر كمية العنف التي تنخر المجتمع، ويرى مراقبون أنها نتيجة لأزمة شاملة تمر بها البلاد في أبعادها السياسية والاجتماعية والقيمية. فقد ارتفع منسوب العنف الإجرامي في سنة 2020 بنسبة 63.3 في المئة مقارنة بما كان عليه في سنة 2019 ليتصدر خلال السنة المنقضية أبرز أنواع العنف بنسبة سنوية تبلغ 59.3 في المئة. وحسب التقرير السنوي حول العنف لسنة 2020 الذي أعده المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تصدر العنف الإجرامي أبرز أشكال العنف للمرة الثانية على التوالي يليه العنف الانفعالي بنسبة 11.2 في المئة فيما يحتل العنف الجنسي المرتبة الثالثة لأبرز أنواع العنف في سنة 2020 بنسبة 10.1 في المئة، حيث سجل منسوبه ارتفاعا بـ34.6 في المئة مقارنة بسنة 2019. ويعد القصّر والنساء من الفئات الواسعة التي تضررت من هذا العنف. وسجل منسوب العنف في شكليه الفردي والجماعي تقاربا في سنة 2020، إذ بلغ العنف الفردي 50.2 في المئة والعنف الجماعي 49.8 في المئة. واستحوذت ولايات (محافظات) تونس العاصمة وسوسة والقيروان على نصف حالات العنف المرصودة. محمد الجويلي: ضعف أجهزة الدولة يساعد المواطن على أخذ حقه بيده محمد الجويلي: ضعف أجهزة الدولة يساعد المواطن على أخذ حقه بيده وعزا خبراء انتشار الظاهرة إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية والسياسية التي تعيشها البلاد منذ فترة، ما خلق مناخا غير مستقر تغذيه الصراعات والتجاذبات في أعلى هرم السلطة، سرعان ما انعكست تداعياته على الفئات الشعبية، فضلا عن اصطدام الشباب بصعوبات معيشية ومطبات عدة سنحت بممارسة العنف.واعتبر الباحث في علم الاجتماع محمد الجويلي أن “ارتفاع منسوب الجريمة هو مؤشر على أن المجتمع يعيش أزمة، فتتم محاولات حل تلك الأزمة بالعنف في ظل مناخ عام غير ملائم تبعا لضعف التنشئة الاجتماعية والخدمات على غرار التربية والتعليم والصحة”. وأضاف في تصريح لـ”العرب” “كل ذلك الضعف يؤدي إلى ممارسة العنف كطريقة للتعبير عن وجود أزمة شاملة وإحساس بأن الدولة غائبة، وبالتالي فإن ضعف أجهزة الدولة يساعد المواطن على أخذ حقه بيده، والكل في حالة استنفار (البرلمان، والطبقة السياسية)، ويصبح اللجوء إلى العنف سريعا”. وتابع “عندما تكون الأزمة شاملة في السياسة والاقتصاد والمجتمع، بالإضافة إلى أزمة في مستوى القيم، يصبح هناك ركون إلى العنف، لأن الوسائط التي كانت موجودة تراجعت، علاوة على مساهمة المخدرات في ارتفاع منسوب الجرائم”. وفي استعراضه الحلول العاجلة والممكنة للتخفيف من وطأة الإجرام في المجتمع قال الجويلي “لا بد أن تعطى رسائل سياسية واضحة وتضمن أن البلد مستقر وتجاوز التشنجات عبر نوع من التوافق السياسي”. وأشار إلى أن “الاستقرار السياسي سيمهّد للمؤسسات ظروف العمل المناسبة ويخفف الصراعات ويخلق نوعا من الشعور بالراحة لأن الدولة موجودة وقادرة على معاقبة المخالفين، فضلا عن الجانب التعليمي والاجتماعي على المدى البعيد وفتح الملفات الهامة كإصلاح التعليم وإصلاح المنظومة الصحية ما يجعل المواطن يشعر بدولة قائمة الذات وعندها يتقلص منسوب العنف”. واستطرد “عودة الديناميكية الاقتصادية والاستثمار والنشاط السياحي ستساهم في تجاوز الفراغ النفسي والوظيفي”. واعتبرت نجاة الزموري، عضو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، أن “ارتفاع ظاهرة العنف بجميع أنواعه سببه تنامي خطاب الكراهية في مؤسسات الدولة (البرلمان) والشارع، فضلا عن وسائل التواصل الاجتماعي”. وأضافت في تصريح لـ”العرب” أن هناك أسبابا عديدة تقف خلف ذلك، منها العنف النخبوي الذي أصبح اليوم ظاهرة، والاحتقان الاجتماعي الذي مردّه القطاع الاقتصادي المتردي حيث وصلت نسبت الفقر إلى 25 في المئة، بالإضافة إلى انسداد الأفق ما يدفع إلى اللجوء إلى العنف. وبخصوص مدى انشغال الرابطة بخطورة العنف الإجرامي قالت الزموري “الإفلات من العقاب موجود في جميع الظواهر المخلة والمنافية لحقوق الإنسان، وعلاوة على البيانات التي أصدرناها (غير كافية) استكملنا مؤخرا مشروعا دام ثلاث سنوات حول تنامي ظاهرة التطرف العنيف وقمنا بزيارات إلى السجون ومراكز إعادة الإدماج”. وأردفت “هناك حلقة مفرغة بسبب المشاكل الاقتصادية، ورموز الدولة لا تعطي مثالا سلوكيا لبث رسائل طمأنة في صفوف الفئات الشعبية، علاوة على انعدام الإرادة السياسية في تفعيل القوانين”. وأشارت إلى “ضرورة إيجاد مقاربة شاملة لمعالجة ظاهرة العنف والإجرام في مستوياتها الأمنية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية”. وأضحى عدد من المؤسسات التربوية ساحات لجرائم الاغتصاب والعنف والسطو ومسالك لترويج المخدرات. وأصبحت المسافة بين دوافع الجرائم البشعة وتنفيذها قصيرة جدا بمعنى أن أتفه الأسباب بإمكانها أن تؤدي إلى جرائم كبيرة وبشعة. نجاة الزموري: ارتفاع العنف سببه خطاب الكراهية في مؤسسات الدولة نجاة الزموري: ارتفاع العنف سببه خطاب الكراهية في مؤسسات الدولة ويرى متابعون أن دور المؤسسات التربوية المؤطرة للشباب في السنوات الأخيرة قد تراجع وأصبحت المنظومة التربوية العمومية تعيش حالة من التهميش، بسبب سلوكيات خارجية عنيفة يتلقاها الطفل في الشارع وعبر وسائل التواصل الاجتماعي. وأفاد فريد شويخي، المتخصص في البيداغوجيا الجديدة ورئيس جمعية منتيسوري لشمال أفريقيا، بأن “دور المدرسة في تنمية المستوى الأدبي والمعرفي للمجتمع قد تراجع، والمدرسة الآن غير قادرة على تأدية دورها البيداغوجي والتربوي”. وأضاف لـ”العرب” “الاختلاف موجود في المجتمع قبل المدرسة، والسلوك نموذج من البيئة، وإذا كانت البيئة متشنجة (أمن وإعلام وسياسة) مع مضامين وسائل التواصل الاجتماعي، فإن التلميذ سيتأثر بتلك السلوكات”. وقال الشويخي “موجة العنف في أوجها الآن من عنف سياسي ومجتمعي وأجواء رياضية مشحونة، والمنظومة التربوية وحدها غير قادرة على ترشيد سلوك الشباب، ولا بد من تكاثف جهود مختلف الأطراف المتداخلة فيها”. وتسبب غياب الأمن في المؤسسات التربوية وتفاقم نسب الفقر والبطالة وغلاء المعيشة وتدهور البنية التحتية والانقطاع المبكر عن الدراسة في جعل التلميذ ضحية سهلة معرضة لشتى أنواع المخاطر، كما مثلت جميع هذه المظاهر أرضية ملائمة للعنف بمختلف أشكاله. وكشفت جائحة كورونا مشاكل بنيوية تعود إلى أرضية مهيأة جاهزة لتفشي الظواهر العنيفة. وتصاعدت وتيرة العنف بجميع أشكاله في فترة ما بعد الحجر الصحي الشامل والموجه الذي شهدته البلاد، إذ سجل العنف الأسري حوالي 22 في المئة من مجموع حالات العنف المرصودة، إلى جانب استشراء العنف الانفعالي الذي مثّل 23.7 في المئة من حالات العنف المرصودة. ومثّلت النساء والقصر الفئتين الأكثر تضررا جراء العنف الجنسي الذي تجاوزت نسبته 18.5 في المئة من المجموع العام للعنف المرصود وتواصل نسقه التصاعدي على غرار الأشهر السابقة. وارتفعت نسبة البطالة في تونس لتبلغ 17.4 في المئة، وفق أرقام رسمية. وترزح البلاد تحت أزمة سياسية متواصلة بين رؤوس السلطة، بسبب خلافات على الصلاحيات بين رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس الحكومة هشام المشيشي.
مشاركة :