اعترف الرئيس الأمريكي جو بايدن بتعرض الأرمن للإبادة في عهد الإمبراطورية العثمانية، وكما كان متوقعا فقد استقبل القرار الأمريكي بارتياح من الشعب الأرمني فيما أثار ذلك حفيظة الكثير من الأتراك. ومع ذلك، فإن هذا الاعتراف في حد ذاته من دون محاسبة لا يعني الكثير، إذ يجب على الحكومة التركية ذاتها أن تعترف بما تم ارتكابه قبل قرن من الزمن للقضاء على الوجود المسيحي للأرمن في منطقة الإمبراطورية العثمانية التي كانت ستصبح تركيا. خلال الفترة الممتدة ما بين سنتي 1915 و1917، قُتل أكثر من مليون أرمني وقضي على وجودهم المادي في المنطقة إلى حد كبير. لقد بذلت في البداية بعض الجهود من أجل العثور على المسؤولين عن ذلك ومحاسبتهم عن جرائمهم، لكن مع قيام الدولة التركية الحديثة ترسخت ذهنية إنكار منهجية ووحشية تلك الجرائم التي راح ضحيتها الأرمن. لم تكتف تركيا برفض الاعتراف بالفظائع التي ألحقها أسلافهم بالأرمن، بل إنها ظلت ترفض وتهدد أولئك الذين يجرؤون على تحديهم من خلال الاعتراف بأن ما حدث كان يرتقي إلى الإبادة جماعية. إمعانا في إنكارهم، اختلق المؤرخون الأتراك تاريخًا وهميًا يقلل من جرائمهم، ويلقي باللوم على الضحايا ويعفيهم من المسؤولية. في الحقيقة، لم يكن الأتراك الوحيدين في التاريخ الذين يتنصلون من جرائمهم ويتحصنون بالإنكار. فالتاريخ البشري، القديم منه والمعاصر، مليء بحوادث الإبادة الجماعية -أي الجهد المبذول للقضاء على شعب ومحو تاريخه وتشويه سمعة ثقافته وتدمير وجوده المادي. لقد اعترف الضحايا واعترفت الدول الأخرى التي تدعمهم بالكثير من هذه الفظائع. ولكن، وباستثناء اعتراف ألمانيا بالهولوكوست، فإنه نادرًا ما أقر الضالعون بارتكاب هذه الجرائم وتحملوا المسؤولية وعرضوا التعويض. لعل هذه الأمثلة المأخوذة من كبد التاريخ تكون كافية لتوضيح هذه المسألة. قامت الولايات المتحدة على عمليتي إبادة جماعية تمثل خطاياها الأصلية -المذابح والتهجير القسري للسكان الأصليين في البلاد واستعباد الأفارقة السود في إطار نظام الرق. فقد قُتل الملايين من السكان الأمريكيين الأصليين كما تم «تطهير الأراضي من الهنود» لإفساح المجال للمستوطنين الجدد. أما أولئك الذين تم إجلاؤهم قسرًا فقد تم وضعهم في «محميات» تشبه البانتوستان. تم «تحرير» السود بموجب إعلان التحرر، غير انهم ظلوا بلا أرض ويعانون من الفقر المدقع ليتم بعد ذلك إخضاعهم لقوانين قاسية وجائرة تجردهم من حقوقهم الكاملة كمواطنين. وتم بعد معاناة طويلة منذ ذلك الحين تمكين السكان الأمريكيين السود من بعض الحقوق المدنية لكنهم لا يزالون ضحايا الفصل العنصري والقوانين والمعاملة التمييزية. صحيح أنه يتم تدريجيا إزالة بعض تماثيل أنصار الفصل العنصري وملاك العبيد بعد طول انتظار غير أنه لم يجرؤ أي رئيس أمريكي على الاعتذار وتقديم تعويضات عن العبودية أو الإبادة الجماعية ضد الأمريكيين الأصليين. يتعين أيضًا تصنيف الأعمال التي قامت بها بريطانيا في أيرلندا على أنها ترتقي إلى الإبادة جماعية. فأثناء استعمارهم للجزيرة عمد المحتلون البريطانيون إلى مصادرة الأراضي من أصحابها الأيرلنديين واستقدموا المستوطنين الموالين لهم ومكنوهم منها وسرقوا الموارد الأيرلندية وحاولوا القضاء على الثقافة الأيرلندية، وفوق ذلك كله لم يفعل المستعمرون البريطانيون أي شيء يذكر لمساعدة ضحايا المجاعة الكبرى التي تسببت في هلاك ما يقرب من ثلث السكان الأيرلنديين جراء الجوع والمرض بينما أجبر الثلث الآخر على الهجرة. في الوقت الذي كان فيه الأيرلنديون يتضورون جوعًا كان المستعمرون البريطانيون يواصلون استيراد الطعام من أيرلندا، وهو طعام لم يُسمح للأيرلنديين باستهلاكه. بعد مرور عقود طويلة على استقلال أيرلندا يظل المستعمرون البريطانيون يفرضون سيطرتهم على الجزء الشمالي من الجزيرة، وبينما يسود سلام هش بين البريطانيين والأيرلنديين -باستثناء اعتذار رئيس الوزراء السابق توني بلير- فإنه لم يصدر عن بريطانيا أبدًا أي اعتراف وإقرار بالمسؤولية عن أفعالها أثناء الحكم الاستعماري وبعده. أما السياسات التي تعاملت بها إسرائيل مع السكان العرب الأصليين فهي ترتقي أيضا إلى الإبادة الجماعية. فخلال ما يُسمى حرب الاستقلال الإسرائيلية –أي النكبة الفلسطينية- أُجبر غالبية العرب على الفرار من الحملة العسكرية الإسرائيلية الممنهجة والتي كانت ترمي إلى «تطهير» أجزاء من البلاد من سكانها العرب. عندما حطت تلك الحرب أوزارها كان قد تم القضاء على ما يقرب من 500 قرية فلسطينية، وصودرت ملايين الأفدنة من أراضيهم وآلاف منازلهم وأعمالهم التجارية التي استولى عليها المستوطنون اليهود. خلال العقدين الأولين فرضت إسرائيل شروطًا قاسية على الفلسطينيين الذين آثروا البقاء وأجبرت الأطفال العرب على تعلم العبرية وحرمت العرب من حق الانضمام إلى النقابات العمالية أو العيش في المناطق اليهودية أو تكوين منظمات سياسية. خففت إسرائيل بعد ذلك بعض هذه الشروط المفروضة منذ ذلك الحين على المواطنين العرب في إسرائيل، لكن العديد من هذه السياسات نفسها تُفرض الآن كجزء من حكم الفصل العنصري القمعي لإسرائيل في الأراضي المحتلة. لقد اختلقت إسرائيل تاريخها ولم يقبل مؤيدوها في جميع أنحاء العالم أي انتقاد لسياساتها ولن يقبلوا بأي مسؤولية عما ارتكبته في حق المواطنين العرب وفي حق أولئك الذين يعيشون تحت الاحتلال، وخصوصا اللاجئين الفلسطينيين. أما السياسات الاستعمارية التي انتهجتها فرنسا في الجزائر فهي ترتقي أيضا إلى الإبادة الجماعية. خلال حقبة الغزو الفرنسي قُتل ما يقرب من ربع السكان العرب في البلاد أو ماتوا من المرض أو الجوع، مع مقتل المزيد خلال أكثر من قرن من الحكم الاستعماري الفرنسي الجائر. استولى المحتلون الفرنسيون على الأراضي والموارد وفرضوا سياسات تمييزية شبيهة بالفصل العنصري، وصادروا الممتلكات والموارد، وجاؤوا بعتاة المستعمرين من فرنسا وحرموا الأطفال العرب من فرص التعليم، وشوهوا سمعة الثقافة العربية والإسلامية في البلاد. أدلى الرئيس الفرنسي مؤخرا ببيان يقر فيه بارتكاب بلاده «جرائم ضد الإنسانية» في الجزائر لكنه لمس بعد ذلك مدى سوء وقع تلك الخطوة على الناخبين مما جعله يتراجع لاحقًا ويقول إنه «لن يكون هناك توبة أو اعتذار» عن سلوك فرنسا في مستعمرتهم السابقة. يعيش المهاجرون العرب اليوم في فرنسا في أحياء مكتظة وهم يمثلون طبقة اجتماعية دنيا دائمة ويعانون من معدلات عالية من الفقر والتمييز. بناء على هذه الشواهد التاريخية يتضح لنا الدرس المستفاد. إنه لأمر طيب أن يعترف الرئيس بايدن بالإبادة الجماعية التي ارتكبها الأتراك في حق الأرمن لكن العدالة لن تتحقق ما لم يعترف الورثة الذين جنوا ثمار سياسات الإبادة الجماعية السابقة والجرائم التي ارتكبت باسمهم. { رئيس المعهد العربي الأمريكي
مشاركة :