يفرغ مغرب اليوم الأحد بقية حجاج بيت الله الحرام من حجهم، كما فرغ بالأمس المتعجلون منهم، أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتقبل من الجميع أعمالهم وأقوالهم بمنه وكرمه.. حججت، وتابعت، وشكرت ربي أن ختم ما مضى بخير، ويقيني قوي في المولى سبحانه أن يمضي الباقي كذلك في خير، فعادات ربي وكما قال أحدهم جميلة: "الله عوَّدك الجميلً * فقسْ على ما قد مضَى".. لا شك في أن هناك مشكلات في الحج، وأنا أحب أن أسميها تحديات، وهذه لا ينكرها إلا أعمى؛ كما أن هناك محاسن في الحج، وهذه لا يمكن أن يجحدها إلا ساخط.. النظافة العامة، والتدافع غير المعقول من أهم ما قد يشوه صورة كل عمل طيب قدم من أجل إنجاح أعمال الحج، وعندما يجلس المرء بينه وبين نفسه للتفكير في الحلول؛ سيجد مجموعة لا بأس بها من الأفكار التي يمكن أن تكوِّن موسوعة ضخمة، من الابتكارات غير المتناهية. الحل الأبرز الذي أراه لحل تحديات الحج، يكاد يرتكز في توعية الحجيج قبل وصولهم إلى هذه الأراضي المقدسة، وهذه المسألة لا بد أن تعامل بجدية بالغة، وأن تعطى أهمية قصوى، وأن تشرف عليها سفارات خادم الحرمين الشريفين في الخارج إشرافا مباشرا، وتلزم بها بعثات الحج في كل بلد، ويحضرها كل حاج قبل شهر على الأقل من قدومه إلى رحلة الحج؛ أسوة بالتطعيمات والتحصينات المفروضة على الحجيج قبل الحج.. لا بد أن يتعلم حجاج بيت الله الحرام ممارسة النظام حينما يريدون قضاء مهامهم الشخصية، وعندما يقضون حاجاتهم الضرورية، وبغير ذلك ستظل الجهود غير متواكبة مع بعضها البعض. واقع الحج يحكي صورا مؤلمة من الفوضى، والعبثية التي تحصل من بعض الحجيج الذين لم يخرجوا من بلدانهم إلا للرغبة في أن يعودوا إليها طاهرين من ذنوب الظاهر والباطن؛ وهذه الرغبة السامية لن تحصل بدون إفهام الحجاج وتثقيفهم "من بلدانهم" أن العبادة وعمارة الأرض لا يفترقان، وأن حقوق الدنيا وحقوق الآخرة بدرجة واحدة من الأهمية، وأن تحقيق الشعائر لا يتأتى دون التقدم في الأمور الحضارية، وأن الظواهر السلبية تحبط من أجورهم، وأن دينهم العظيم ما جاء إلا ليصلح حالهم، ويحقق سعادتهم، وينظم حياتهم، ويدير شؤونهم، وأن الحج مدرسة لتحقيق العبودية لله عز وجل، وأن العبادة الحقة تقتضي الرحمة فيما بينهم، وعدم الإخلال بالنظام، والنظافة، والعبث، والإهمال بمقدرات البلاد، ومكتسبات العباد. العائق الأساسي والجوهري في تحديات الحج، والقضاء على الأضرار المادية والبشرية التي تحدث سنويا يبدأ من تدريب الحجاج على الأساليب الصحيحة في التعامل مع الأزمات، والتذكير الدائم بقدسية الحج، وما يرتبط بهذه القدسية من ضرورات خُلقية تقتضي تعريفهم بمضار المسارعة، بل وتعريضهم لتجارب وهمية قد تصادفهم. المملكة العربية السعودية، ومليكها -أيده الله- وحكومته تحملوا أمانة الحج، وهي أمانة ثقيلة جدا، والمنصف لا يسعه إلا أن يقر بأن بلاد الحرمين لم تأل جهدا في توطيد أمن الحجيج، والسعي الدؤوب لخدمتهم، لكن الثمرة الكبرى في العودة المظفرة بعد قضاء النسك لا ولن تتحقق إلا بتضافر الجهود، والتعاون المستمر بين مؤسسات الحج في بلدان الحجيج؛ فحفظ سلامة الحجاج، وإنجاح مهمتهم، وقبولها بإذن الله، مهمة تبدأ من هناك، أكثر من هنا.
مشاركة :