عندما نتحدث عن المرحلة الطاهرة والمحطة البريئة في حياتنا القصيرة، تهرب بنا الذاكرة إلى مرحلة الطفولة العفيفة التي لا يضاهيها أي نقاء، كيف كنا نلعب بحريّة ونمرح بلا رقيب، ليس لدينا مسؤوليات أو شأن نقلق إزاءه، كنا نتراقص مع نسمات الهواء ونرفرف مع الطيور والفراشات، نعانق الندى وقطرات المطر وأحلامنا السامية مغلفة بالصفاء، ابتساماتنا العفوية، غنائنا بصوت واحد، الجميع يتملكه الفرح والسعادة ترتسم على وجوهنا، نتشابه في العفوية ونختلف في اللون، لا تفرقنا أي عنصرية، متحابين متكاتفين، متماسكين، يمضي الوقت ولا نفرق بين النهار والليل إلا وقت النوم، مادام السلام يجمعنا، تلك التفاصيل الصغيرة تكفي لأن تمنحنا الدفء مدى الحياة مادمنا نتنفس خصوصاً نحن الأناث. منذ ثمانية أشهر مضت، أكملت أربعة فصول وربيع واحد، كنا نكبر يومًا بعد يوم، نزداد غنجاً وجمالًا وأنوثه، أنا وأخواتي وصديقاتي و شذى أنفاسنا يتأرجح في كل مكان، شيئاً فشيئاً تكبر معنا ملامحنا الصغيرة، كل ما مروا بجانبنا يلقون علينا بوابل المديح والكلمات الغزلية، كنا نخجل بطبيعتنا الأنثوية، نحاول تغطية ملامح وجوهنا كي لا يظهر إحمرارها من شدة الحياء، في كل مرة يمازحوننا و يحاولون الإمساك بأيدينا، يتحسسون خدودنا بأصابعهم، كانوا يقولون: لقد كبرتن، أصبحتن عرائس، الشيء الذي كنا ننتظره جميعنا نحن الإناث بطبيعة الحال، رغم أن الأوان لم يحن، إلا أن الكلمات تلك تسعدنا كثيراً وتهيج مشاعرنا، هناك فرق كبير في ترجمة الجمال بين العين والروح، فالعين تعشق مايعجبها من الجمال الخارجي مثلهم والروح تعشق مايشبهها هذا ما تآلفنا عليه، وكنا في ذلك الوقت أشبه بالقطيع الذي حباه الله بنعمة الإنسجام والمحبة. بعد فترة من الزمن ليس بالبعيد وقبل بداية فصل الخريف، تغيرت الحياة، كبرنا لدرجة النضوج وبلوغ الحلم، أصبح إدراكنا لماهية الحياة تختلف ومشاعرنا باتت في عنفوانها أبلغ من ذي قبل، إزدادت حساسيتنا، بدأت الغيرة تزرع نفسها في دواخلنا، مالت تصرفاتنا إلى الترفع والنظر إلى سلوكيات الأخريات بنظرة دونية، أذكر في ذلك الأوان، وكأنه عقاب من الله حل على هذه الكوكبة التي ننتمي إليها، خلال أيام معدودة، خرج الأمر عن المألوف!!، لقد بدأت ثلة الأشخاص التي كانت تصب إطراءاتها في وصفنا بمضايقتنا، وصلت بهم الجرأة بالإضافة إلى تحسسهم أجسادنا، قاموا بالتحرش وبات الجميع ينزعج من حركاتهم، الأمر الجلل الذي كلما أخبرنا أمهاتنا عن أفعالهم الغير محترمة، نكسوا رؤوسهم بدل أن يضعوا حدوداً لتصرفاتهم، فنتيجة لهذا السكوت المتواصل، أضحوا يتطاولون على الجميع بلا إستثناء و نتيجة تجاهل سلوكهم هذا جعلهم يتمادون في وقاحتهم. في ذلك اليوم المأساوي، جاءوا وفي أيديهم أسلحة بيضاء، أفزعوا الجميع بكلماتهم النابية وألفاظهم البشعة، متنمرين وكأنهم تحولوا إلى رعاع، همجيبن، هجموا علينا وبالأخص نحن اليافعات، لا أعلم أي عقاب هذا وهل نستحقه ك عاقبة للغرور والتكبر؟! ، تفاررنا جميعاً فأصابتني سكين أحدهم، سقطت أرضاً، أغمي عليّ لفترة قصيرة ولم أستيقظ إلا وأنا مقيدة، صرخت من ذهول الموقف كما جميع أخواتي ومثيلاتي، جميعهن مقيدات، لم نألف هذه التصرفات الرعناء، جمعونا في سيارة كبيرة ونحن نصرخ ونبكي ولا حياة لمن تنادي، كأن الإنسانية فيهم تمشي معصوبة العينين، تبادلنا النظرات بحثاً عن أقاربنا أمي أبي والجميع أين هم لينقذونا من أيدي هؤلاء الحثالة، أوقفوا سيارتهم، إلى أين سيذهبون بنا؟ لم تعد تجدي كل نداءاتنا، ماتت أصواتنا وإنكسرت الكلمات، لم تعد تجدي كل الاستغاثات البريئة، ليس لنا إلا أن نواجه مصيرنا المجهول وكأنه أمر محتوم، ندعوا الله أن لايصيبنا مكروه، أكثر من الذي يحصل الآن، وصلنا للمكان المنشود، الذي كان أشبه بالمستودع المهجور، وضعونا في غرفة صغيرة مظلمة، تفتقر إلى الضوء والنظافة، المكان رديء وبه بقايا أشلاء متناثرة، ليس بها حتى نافذة ليتسلل النور إلينا لنعرف ماهية هذا المكان المرعب، أتذكر ذلك جيداً وكأن الحدث أمامي الآن. القليل منا من قاوم ومسك أنفاسه ليعرف مصيره والكثير سلّم نفسه لليأس وسط حالة من الذهول والذعر، الغريب في ذلك الحين لم أتذكر كلمات الأشخاص بل صمت الجميع وكأن أنفاسهم سكنت، مازالت نظراتي تبحث عن بقية الأقارب ولكن بلا فائدة، تركونا هناك لمدة يوم بأكمله، بلا ماء أو غذاء، دون أي شفقة أو رحمة، دون أن يكترثوا بالحالة التي سببوها لنا، لم نستطع النوم تلك الليلة، الله وحده يعلم حجم هذا الشتات وهو أقوى من كل الظروف لذلك سلمنا أمرنا إليه، عل من يستعطف أمرنا ويرأف بحالنا. في صباح اليوم التالي، سمعنا صوت خطوات قادمة نحونا وأصوات مألوفه وكأنه سائق السيارة جاء مع صحبته الذين لايملكون عطف في قلوبهم السوداء، لا نعرف مالذي سنواجهه هذا اليوم، كل شيء مجهول، هل هو موعد خلاصنا أم قتلنا ؟! فتحوا باب الغرفة بدأوا يرشون الماء علينا، استيقظ الجميع من هول الصدمة والفرح في آن وكأن الماء هو الغاية الوحيدة التي ينتظرونها، بعد نفاذ الماء بدأوا يصنفوننا وكأننا جنود حرب يسعفون من به رمق لتعذيبه لاحقاً ويتركون من فارق الحياة يتعفن في مكانه، وضعوني مع مجموعة صغيرة كنا بجانب بعض، أنتشلوني من بين أخواتي وفرقونا، سمعت السائق يخبرهم بأنه سيذهب بنا إلى السوق لبيعنا، أي سوق هذه ؟ هل هي سوق النخاسين أم ماذا ؟ وهل نحن للبيع؟ أي زمان هذا؟ صرخت بأعلى صوتي وأنا مجهدة، هل نحن عبيد عندكم لتبيعونا؟ لكنه لم يكترث بهذا الصريخ وكل التساؤلات وكأنه أصم، مددت يداي إلى أخواتي وناديتهم واحده تلو الأخرى فهن نائمات وكأنهن أموات، لا أعرف ماذا سيحل بهن هنا في هذا المكان الموحش والمخيف، صرخت صرخة أخيرة وهو يحاول الخروج بنا حتى جف كل شيء بداخلي من التعب ومات الأمل الذي أتمسك به، فأغمي عليّ مرة ثانية. جلست بعد عدة سويعات، رأيت الجميع ومن ضمنهم أخواتي، الحمدلله، لم أهتم بمكان وجودنا مادمن بجانبي، لقد وضعونا في غرف زجاجية، لنستعيد عافيتنا ونشاطنا وقد قسمونا إلى ثلاث مجموعات وكتبوا فوق كل مجموعة لافتة صغيرة تحتوي على إسم المشتري وعنوانه، كأننا بنات هوى يبيعون شرفنا بثمن بخس، سمعت البائع العجوز يخبر خادمة و يقول: المجموعة الأولى البيضاء، إشتراها تاجر المجوهرات ليضعها فوق قبر أبيه، والمجموعة الثانية، تلك الباقة الصغيرة، إشترتها تلك السيدة هناك لتقدمها لأختها بمناسبة نجاحها، أما المجموعة الأخيرة الكبيرة وهو يشير برأسه إتجاهنا، لقد إشترتها السيدة صفاء زوجة المحافظ، لتضعها في حوض منزلهم للزينة. الأمر المحزن والسعيد أننا مازلنا مجموعة كبيرة، نعيش الآن في مكان صغير بالكاد يكفينا والحسرة في أعيننا على ذلك العالم الجميل، في تلك البقة المجهولة من الأرض، لانعرف ماهو مصير بقية الورود، غير أنهم فارقونا، فهل كانوا ضحايا لمشاعر بشرية مؤقتة مقابل براءة الجميع، أم أموات على قيد الحياة. ___النهاية____ في النهاية وبعد كل هذه الأحداث في هذة الحياة نحتاج إلى أرواح مستعدة وأنفاس عميقة وأن نؤمن بكل حدث سيمر علينا، ماهو إلا قدر مكتوب، ومهما انعزلنا عن العالم برهه ستكتفي بهذه الفترة الزمنية على ترميم أوجاعك بنفسك وليس الإعتماد على الاستعطاف، فكم هو إنجاز وقوة في أن نبقى كما نحن صامدين أمام هذه الأقدار، نتمسك بأنفسنا مهما إستطعنا وسط مجتمع يحاول جاهداً أن يصنع منك شيئاً حسب رغبته، ولكن تلك هي مجريات الحياة.
مشاركة :