يحفظ للثقافة العربية أنها ثقافة الوجه الحاضر.. وثقافة من هم في الصورة.. ويحفظ لها عدم احترام الغائب.. مهما كانت قيمته سواء هذا الغياب كان بالموت.. أو الغياب القسري.. ويحفظ لها عدم الرضا بالنقد واعتبار الناقد شخصاً متطفلاً.. وعضاته سقيمة ومملة.. وليس من حقه أن ينتقد أو يطرح رأيه مجرداً من العاطفة أو ممزوجاً بالخوف من غضب فلان أو فلان.. في الوقت الذي يكون فيه الشخص المعنى بالنقد شاغلاً للصورة وممتلكاً لها.. حيث إنه سيتعرض إلى هجوم كاسح ممن نقده ومن مناصريه إما بدافع الحب أو مدفوعين منه.. وسيعتبر نفسه أكثر قيمة من الشخص الذي حلل عمله أو شرّح مايقوم به وأحياناً.. الأهم هنا أن الخلاف سوف يسطع وسندخل في جدال طويل ينقسم فيه المؤيدون والرافضون دون أن يكون هناك مبرر لذلك..! في المجتمعات التي يعتبر فيها النقد من سمة الثقافة والحضارة وإعلاء قيمة العمل تعبر الأراء في الشخص الذي يتعرض للنقد بهدوء مهما كانت قسوتها ومهما كانت مرارتها أو حتى عدم توقعها والأهم هنا أنّ الشخص نفسه لا يغضب لأنه يعرف قيمته الحقيقية وقدراته ويتعامل مع الآخرين من منطلق فهمها دون زيادة أو نقصان.. ودون إلغاء لإيجابياته أو تجاهل لسلبياته.. ويعرف جيداً أنّ هناك من هم أفضل منه في الموهبة أو الاجتهاد أو التأثير مع الفصل بينها وبين مالديه هو من قيمة لا توجد لدى الآخرين..! السير "فيرجسون" المدرب الإسكتلندي الشهير الذي تولى تدريب مانشستريونايتد عام إلى حيث اعتزل التدريب بعد أن قضى فترة عاماً مدرباً للفريق وحقق معه بطولة للدوري ورافعاً الفريق إلى أكثر الفرق التي حققت بطولة الدوري الإنجليزي متجاوزاً به فريق ليفربول الشهير بعشرين بطولة.. السير الذي منذ اعتزل التدريب لم يتخلف عن متابعة الفريق الذي أحبه من المدرجات ولم يغب عن الصورة.. حيث قام بإصدار كتب يتحدث فيها عن تجربته الثرية التي عاشها مع مانشستر وفي كتابه الجديد "القيادة" تحدث فيه عن أهم أربعة لاعبين من طراز عالمي أشرف على تدريبهم في يونايتد.. وهم.. بول سكولز لاعب الوسط الشهير الإنجليزي الشهير المعتزل.. وإيريك كانتونا.. اللاعب الفرنسي العبقري والذي اعتزل مبكراً واتجه للتمثيل ليتحول إلى ممثل مسرحي.. واللاعب الشهير كريستيانو رونالدو لاعب ريال مدريد حالياً.. وريان جيجز اللاعب الويلزي الفنان الذي اعتزل في الأربعين منذ عامين وتحول إلى مساعد مدرب للهولندي "فان جال" مدرب يونايتد حالياً.. أهمية ماقاله فيرجسون يرتكز على أنّ الصحافة الإنجليزية توقفت أمامه كثيراً دون الاختلاف على قيمة من ذكرهم ولكن أين "ديفيد بيكهام" من كل هؤلاء وهو اللاعب الإنجليزي الأشهر؟ لقد دربه فيرجسون منذ مراهقته وهو لاعب موهوب وشهير ووسيم وعارض للأزياء ومهذب لعب في ريال مدريد بعد أن ترك مانشستر وبعد أن أجبره السير على الرحيل لأنه حضر إلى الملعب بطائرته الصغيرة متباهياً بها.. ومع ذلك يظل لاعباً كبيراً وقائداً لمنتخب إنجلترا المنحوس..! صحفي في بي بي سي سأل بيكهام: "هل شعرت بالإهانة عندما لم يذكر فيرجسون اسمك؟" قال بيكهام: لا لا مطلقاً فيرجسون أفضل مدرب في التاريخ وأنا فخور اني تدربت معه.. أنا أتفق مع كلامه ولحسن الحظ أني لعبت مع عدد كبير من هولاء النجوم.. كنت محظوظاً باللعب بجوار رونالدو البرازيلي وكريستيانو البرتغالي.. وفخور أكثر بنجاحي في مانشستر يونايتد..! مجمل مايُفهم من ردود بيكهام أنه يتفق مع السير في كلامه وأنه محق.. ويعترف أنه ليس لاعباً من الطراز العالمي.. رغم أنه ولمن يتابع الآن وحتى بعد اعتزاله لا يزال يشغل الصحافة من خلال مشروعاته التجارية وعروضه وتواجده دوماً كنجم تطارده الصحف لتنشر أخباره..! ما استوقفني هو اعتزاز بيكهام بقيمته وذاته وكيانه حتى وهو يعرف أنها ليست بقيمة آخرين في المجال الذي برع فيه ولكنه تفوق في أشياء أخرى لم يتفوقوا هم فيها.. لم يغضب وهو مالفت الصحافة ولم يشتم المدرب أو يتطاول عليه أو يجرحه أو حتى يقول: لا يهمني رأيه أنا أعرف نفسي وجمهوري يعرفني أو من هو هذا المعتزل الذي يقيّمني ويشرح تاريخي.. بل على العكس احترم الآخرين الأفضل في نظر المدرب ولم يقلل من قيمتهم والأهم أنه قال إن فيرجسون أفضل مدرب في التاريخ.. هل يستطيع أحد أن يقول ذلك في أحد همّشه وتجاهله ولم يعبأ به؟ هل يستطيع أحد أن يتجاوز غيظه وأهميته ويعرف أنه في نظر الآخر عاديّ ومع ذلك يمدح هذا الآخر ويعتبره الأفضل في التاريخ..؟ ولماذا لم يسلط عليه مناصروه ومعجبوه ليقوموا بحفلة الردح وتشويه صورته؟ إنها ثقافة القبول بالرأي الآخر واحترامه وعدم فصله عن أحقيته فيما يقول وفوق ذلك إعطاء صاحب الرأي قيمته الحقيقية وعدم نزعها منه لسبب أنه تجاهلني.. نعاني من رفض رأي الآخر وعدم احترامه بل والتقليل منه.. وتهميشه.. وأجزم أنّ أي مدرب أو ناقد كبير في أي مجال همّش أحدهم لقامت عليه الدنيا ولم تقعد وأقلها مراهق عشريني.. سيقول له.. ألم تمت بعد؟ آو ارحمنا من تخاريفك.. التي تطرحها من أيام حفروا البحر.. وهو لا يعرف قيمة هذا الشخص إطلاقاً..! أخيراً في كرة القدم بالتحديد.. لدينا كل لاعب هو دولة منفصلة بحد ذاته.. يعتقد أنّ له حدوده وموارده وجيشه في تويتر وصحفييه سواء من المنتمين للنادي أو المرتزقة يهجمون كالذئاب على من يبدي رأياً بشراسة وقسوة وهو يتفرج بسعادة مهما كانت قيمة من أبدى رأيه مع الفارق طبعاً في قيمة من لدينا ومن لديهم هناك سواء في الوعي أو القيمة الكروية أو القيمة على مستوى العالم..! في المجالات الأخرى ينطبق عليها نفس ما ينطبق على الرياضة لا تاريخ لمن لا يضعني في الصورة أو المقدمة.. ولو اقترب مني سأفجر سطوة اللاشيء في وجهه.. إنها ثقافة الثبات والفهم الورقي الذي لا يتعدى حدود الذهنية السطحية وما يتبعها من حرية فكرية هشة يعتقد المروجون لها أنها لُبّ المعرفة ووجهها الحقيقي وأنا من حقي أن أبدي رأياً مقابل رأيك.. لكن تناسى أن رأيك مُحترم ولكنه بلا قيمة أو أهمية أو خلفية تستند عليها ترفع شارة النصر دون أن تشارك في معركة واحدة.. إنه الجهل الذي ينتشر في الأفق المفتوح دون أن يلجمه أحد خاصة عندما يحكمه اللاعقل..!!
مشاركة :