في تأملاته الفلسفية يقول د. تراسي: إن تجاربك في الحياة هي التي تحدد أسلوب تفكيرك وربما نوعية علاقاتك فالعلاقات هي كل شيء في الحياة فإن لم تقرأ كتاباً أو تتعرف على أحد فلن يتغير فيك شيء. وربما كان د. تراسي في تأملاته يقصد علاقة الصداقة إذ إن هنالك فرقاً بين علاقة الصداقة وعلاقة المصلحة إلا أنه لا يمكن لأي علاقة أن تكون على أكمل مظاهرها وبخاصة إذا ما كانت قوية وطويلة الأمد إلا بعد أن تمر بمرحلة اجتياز الثقة. وبغض النظر عن طبيعة ونوعية العلاقة إلا أن المصلحة في الغالب هي التي تحكم العلاقات الآن سواء أكانت بين الأفراد أو الدول. فعلاقة المصلحة تتأسس على مقتضيات المنفعة والمصلحة ولذلك تكون مقيدة باعتبارات نفعية فأي علاقة ليست دائماً عامل بناء إذا ماكانت تتغذى على المنفعة فأي زلل فيها يعرضها للانهيار، وذلك لأنها تتحرك في محتوى مختلف تماماً عن علاقة الصداقة الحقة فالمادية هي البنية الناظمة لها (والمادية بطبيعتها غير قادرة على تقديم الخير المجرد بلا مردود نفعي) بخلاف علاقة الصداقة المستوحاة من قيم إنسانية كالتعارف والتآلف والتكاتف والتعاون والتعاضد إذ المبدأ الضابط الأول لهذه العلاقة هو أن ينظر الفرد دائمًا إلى غيره كما ينظر إلى نفسه ويراعي عواطف وشعور الآخر مراعاة تامة ويتفهم وجهات نظره مهما كانت وإن كانت قيم ومبادئ الصداقة تختلف من إنسان إلى آخر إلا أنها في الغالب تقوم على مبدأ اللطف الطبيعي والإيثار الإنساني والنبل الأخلاقي وشفافية الروح.. فعندما يصبح الضمير الإنساني الخيط الناظم للصداقة يكون الشعور بالآخر موضع عناية قصوى. وإن كانت العلاقة تختلف في مدى أثرها وتأثيرها سلبًا أو إيجاباً إلا أن اختيار الأفضل يؤدي دائماً إلى الأفضل فقد أصبحت العلاقات إحدى طرق الدعم الذاتي.. إذ من الطبيعي أن يحظى المرء بعلاقات نوعية وصحية وهذا يحدث بشكل تلقائي وعفوي ولكن هنالك فارق كبير بين أن يحظى المرء بعلاقات نوعية وطبيعية وعلاقات خاطئة أو غير فاعلة.. وإن كان من حقنا الطبيعي أن نحدد نوعية أصدقائنا فللصداقة ثمنها ويمكننا أن نتعلم منهجية الاختيار فالاختيارات النوعية تخلق العلاقات النوعية. لقد أمضى د. ماكلان من جامعة هارفرد قرابة 25 عامًا يبحث عن علاقة الصداقة بالنجاح، وقد أجرى دراسة على مجموعات من طلابه متتبعًا مسارات حياتهم بعد التخرج على مدى سنوات طويلة فوجد أن مجموعة من الطلاب توصلوا إلى نجاحات كبيرة في حياتهم أما المجموعة الأخرى فقد أخفقت وقد تبين له أن السبب يعود إلى أن المجموعة الأولى تداخلت في علاقات جديدة اكتسبت منها آليات ومهارات النجاح أما الثانية فقد احتفظت بعلاقاتها القديمة وتوحدت مع طباعها واتجاهاتها النفسية والسلوكية وطريقتها وأسلوب حياتها ومستويات طموحها فلم يتغير منها شيء وتوصل إلى دور الصديق في التأثير سلبًا وايجاباً على مجريات الحياة. في الولايات المتحدة الأميركية توصل نابليون هيل إلى فكرة بديلة للصداقة أطلق عليها (العقول المفكرة) تدور الفكرة على أن يقوم ثلاثة أو أربعة أشخاص بتكوين علاقة فيما بينهم ويفضل أن يكونوا على وفاق فيما بينهم وأن تكون اهتماماتهم مشتركة ويجتمعوا بشكل منتظم لطرح ومناقشة وتداول فكرة أو موضوع ما والتوصل إلى نتائج وقد يكونون من داخل العائلة أو خارجها أو من دائرة الأصدقاء أو من أي وسط كان فالغرض إثراء النقاش والوصول الى نتيجة.. فالتواصل مع الأشخاص الإيجابيين يمنحنا تيارًا متدفقًا من الأفكار والتصورات والتجارب الثرية. يقول بارون دي رونشايد لا تدخل في تعارفات غير ذات جدوى فليس هنالك من الوقت ما يكفي لتبديده ولذلك عليك أن تكون شديد الانتقاء في علاقاتك وتختارهم بعناية فائقة فغالبًا ما نظن أن الأشخاص الناجحين منعزلون أو غير اجتماعيين إلا أنهم ليسوا كذلك، ولكن لديهم معايير شديدة الانتقائية بشأن من يقضون وقتهم معهم فهم حريصون على تكوين علاقات ذات نوعية دقيقة ويحافظون على استمرارها وفي نفس الوقت يتجنبون في تعفف الأشخاص السلبيين الذين قد يصدونهم عن التقدم إلى الأمام إذ يعتقدون أن الأشخاص الإيجابيين هم سر النجاح وأن الارتباطات السلبية مضيعة للوقت ومصدر للمتاعب والضغوط النفسية. وقد تميل العلاقات بشكل طبيعي إلى الفتور وذلك بعد أن تستنفد طاقتها تدريجيًا إذا لم تتجدد فقد تبذل قصارى جهدك في إرساء علاقة ما عند بدايتها ومن ثم تتركها للزمن بدون أن تقوم بجهود إضافية لديمومتها فالعلاقات ما هي إلا ثمار الوقت المستثمر فيها فكلما قدمت المزيد جنيت المزيد هذا إذا ما أردت أن تكون علاقاتك نوعية ودائمة. وإن كانت العلاقات في زمن التغيير المتسارع أخذت منحنى آخر فطبقًا لما أوردته إحدى الدراسات الاجتماعية فإن نسبة 70 % من العلاقات تكتشف مع الوقت والتجربة بأنها غير فعالة إلا أن هنالك من يتردد في التخلي عنها. ففي عالم الناس ينبغي أن نتعلم الكثير عن طبائع الناس وأنواع العلاقات فإحدى العقبات الأساسية في الصعود بالعلاقة إلى التكامل هو أننا لا نتأمل أو نقرأ الناس بطريقة منهجية صحيحة لكي نبصر الحقيقة. فإظهار الشفقة أحيانًا قد لا يكون مصدره الفطرة الإنسانية وإنما في الرغبة بالشعور بأنه إنسان خير، جرب عدم الثناء على معروف أسداه لك أحد وراقب مدى سرعة تحول شفقته وعطفه إلى استياء مكبوت لذلك قد تكتشف المزعج والرائع في العلاقات أو أن هنالك أو ليس هنالك من أحد يمكن الاعتماد عليه في الجانب الذي تبحث عنه أو من يمنحك أو لا يمنحك الشيء الذي عجزت عن منحه لنفسك. فالعلاقات قد تتغير مع المرحلة العمرية فعندما كنا صغارًا كنا نبحث عن أصدقاء وعندما نضجنا بدأنا نشعر بثقل الصداقة وإن كانت نظرتنا إلى الصداقة في الغالب نظرة جزئية وليست نظرة شاملة وذلك بحسب الزاوية التي ننظر منها ولكن في هذا الزمن بدأت تصير العلاقات ثانوية أو هامشية وليست أساسية.
مشاركة :