فرجان من دون أطفال.. وطفولة من دون ذكريات

  • 5/14/2021
  • 01:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

عندما أستذكر الفرجان الشعبية «فرجان لول» الضيقة التي عشنا فيها وقضينا طفولتنا مع ذكرياتها في الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينات من القرن الماضي تتفتح أمام عيني أشرطة لا تنسى من الذكريات والصور الجميلة التي حملتها ذاكرة الطفولة ولا تزال إلى اليوم حية تحمل في طياتها ذكريات ذلك الزمن الجميل وعندما نستذكرها أو نشاهد صورها الأرشيفية نشعر بالكثير من الأسى على ما أصاب حياتنا الجديدة من قحط وجفاف وجفاء بلا ذكريات. في أيام طفولتنا كانت الفرجان هي ساحة الأطفال من كل البيوت الصغيرة والكبيرة التي يلعبون فيها ويتهاوشون فيها لقد كان فضاء حميميا يمتلئ بالحيوية والنشاط والمحبة والتعاون والتكامل الاجتماعي وكان الطفل يعرف الكل بنينا وبنات واسما اسما وطفلا طفلا ولذلك كانت ذاكرة جيلنا جيل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات مليئة بكل معاني المحبة والحسرة على ذلك الزمن الذي كان يجمعنا من كل الألوان والأطياف ومن كل الطبقات الاجتماعية ونشعر في المقابل بأن أولادنا وبناتنا اليوم يبدون لنا من دون ذاكرة حقيقية بل وربما من دون طفولة أصلا ويمكن هنا أن نرصد مثالين على الأقل: الأول: أن الحياة في الفرجان القديمة كانت بسيطة ولكنها كانت مليئة بالحب والتكافل والتعاون بحيث لا يظهر الفقر ولا يشعر به الناس لأن ما يمتلكه كل بيت هو ملك جميع البيوت إلى حد بعيد وأن الأطفال من أي بيت أو أسرة هم أبناء جميع تلك البيوت وكان الأجداد والجدات والآباء والأمهات يحظون بكل الاحترام والتقدير من جميع الأطفال في تلك الفرجان التي اختفت اليوم أو اختفى أكثرها على الأقل وأصبحت تسودها السيارات الرابضة على طرقاتها في حالة تفتقر إلى الحياة. تلك الصورة التي لا نزال نختزلها إلى اليوم سواء في ذاكرتنا الحية أو في المسلسلات القديمة والصور والألبونات وصور الجرائد القديمة لا تزال إلى اليوم ناطقة بهذه الصورة التي تفوح منها رائحة المحبة والأخوة التي عندما نتذكرها اليوم وأتذكر أروقة ودواعيس الحورة الحي الذي قضيت فيه طفولتي وبيوتها الطينية البسيطة وأذكر أطفال الطفولة والألعاب الموسمية التي كنا نلعبها بنينا وبنات أشعر بقدر كبير من الحزن إلى ما آلت إليه أمورنا اليوم من تباعد وتفكك وانغماس في حياة أخرى باردة لا حياة فيها ولا قيمة لها لأنها بعيدة عن كل معاني الأخوة والمحبة التي عشناها طوال ثلاثين سنة على الأقل من حياتنا الماضية. الثاني: على العكس تماما من تلك الصورة التي حاولت قدر الإمكان أن استحضر أجواءها هي تلك الأحياء الجديدة الاسمنتية المسلحة المعزولة عزلة كاملة أو شبه كاملة عن بعضها البعض ويسود أحياءها أو ساحاتها إن وجدت صمت رهيب إلا من أصوات السيارات في أحسن الأحوال، والأغرب من ذلك أن أغلب السكان في هذه الأحياء الجديدة لا يعرفون بعضهم البعض ولا يتزاورون ولا يدري كل واحد عن أحوال الثاني أما الأطفال فإنهم غارقون في بيوتهم مع التلفزيون والفيديوهات والألعاب الإلكترونية والموبايلات التي تحملهم إلى عوالم بعيدة لا حياة فيها ولا أخوة ولا طفولة. هذه هي الصورة الحالية لحياتنا التي أصبحت سمة رئيسية من سمات المدن الجديدة المستحدثة تعكس الانعكاس السلبي لهذا النوع من المدن على الحياة الاجتماعية التي أصبحت ثقيلة باردة من دون دفء أو ذاكرة حقيقية تجمع بين سكانها وأطفالها بوجه خاص فإذا سألت طفلا من أطفال هذه الأحياء الاسمنتية عما يتذكره من هذه الأحياء بعد عشرين سنة على سبيل المثال لا يجد في هذه الذاكرة أي شيء حقيقي يرتبط بصورة اجتماعية حية أو بألعاب جماعية مشتركة أو حتى بخصومة بين عدد من الأطفال أو فريق كرة قدم في ذلك الفريج أو غير ذلك من الأمور التي عادة ما تتعلق بالذاكرة. إن هذه الحكاية هي جزء من التحولات التي عشناها وعاشتها البحرين وعاشها أهلها وبخاصة جيلنا في المدن والقرى البحرينية التي شهدت التطورات العمرانية السكانية وهددت بشكل مباشر الذاكرة الاجتماعية بل وهددت حتى الهوية الجامعة التي طال ارتباطنا بها في العقود الماضية والذي جاء التحضر المدني والعمراني ليعصف بها وقد كانت أشكال التحضر في الماضي لا تمس الخصائص الأساسية للمجتمع والمدن والأحياء إلا أن السرعة الهائلة التي تمر بها مجتمعاتنا والتحول العمراني في العقود الأربعة الماضية أدى إلى تضاعف كبير في عدد السكان وإلى نشوء عدد من المدن الجديدة من دون ذاكرة حيث يستطيع أي زائر لأي مدينة جديدة أن يلحظ أنها مبنية على غرار المدن الحديثة قائمة على النزعة الفردية وعلى الانغلاق وعلى قتل تلك الروح الجماعية التي كانت موجودة في الماضي مما أثر بشكل سلبي في طبيعة العلاقات بين الأفراد وأثر ذلك على القيم والعادات والمفاهيم المشتركة التي كانت تجمع مناطقنا وفرجاننا وأصبحت للأسف الشديد مدن بلا ذاكرة حقيقية كما أصبح أطفالنا في هذه المدن بلا طفولة وبلا ذكريات طفولة.

مشاركة :