رصد الصحافي المصري وائل لطفي صعود الدعاة خلال فترة سبعينات القرن الماضي التي شهدت تطرفا واضحا في الخطاب الديني وكثافة في استخدام الأدوات الخشنة، وربط بين دعاة هذه الفترة واسم الرئيس الراحل أنور السادات، وحمّله مسؤولية تنامي نفوذهم، فقد كان استحضارهم الباب الذي تغلغل منه المتطرفون في المجتمع المصري. كشف كتاب “دعاة عصر السادات” الصادر حديثا في القاهرة للصحافي المصري وائل لطفي الكثير من خبايا الهبوط الناعم للمتطرفين في مصر، وقدرة جماعة الإخوان المسلمين على اختراق المجتمع خلال عهد الرئيس الراحل أنور السادات الذي لقي مصرعه على أيدي نفر منهم في أكتوبر 1981. رصد لطفي صعود الدعاة خلال فترة سبعينات القرن الماضي التي شهدت تطرفا واضحا في الخطاب الديني وكثافة في استخدام الأدوات الخشنة، وربط بين دعاة هذه الفترة واسم السادات، وحمّله مسؤولية تنامي نفوذهم، فقد كان استحضارهم الباب الذي تغلغل منه المتطرفون في المجتمع. والتقت “العرب” المؤلف وائل لطفي للتعرف منه على كواليس دراسته القيمة. وأكد أن الرئيس الراحل أنور السادات هو من أعاد إحياء تنظيم الإخوان المسلمين ومنحه أدوات قوة صناعية لينتصر على التيارات الأخرى، وإحدى خطاياه أنه أضعف الليبراليين واليساريين، وأطلق الوحش الإسلامي فغاب التوازن في المجتمع. رصد الكتاب عوامل رئيسية أدت إلى إعادة السادات إطلاق الإخوان، أهمها قراره الشخصي وميله المحافظ ورغبته في أن يكون الرئيس المؤمن لدولة العلم والإيمان، واعتقاده أن توظيفه للإسلاميين يمكّنه من القضاء على فصائل اليسار، وفي مقدمتهم الناصريون المنتسبون للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، إلى جانب توفّر ظرف إقليمي متمثل في تحالفه مع السعودية، وكانت آنذاك قريبة من الإخوان. واعترف مؤخرا وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان باستخدام الوهابية في مقاومة الشيوعية، ووقوف الولايات المتحدة وراء ذلك. وثمة عامل آخر مهم لصعود التيار الديني وهو أن مصر الرسمية بعد هزيمة يونيو 1967 تولد لديها ميل لمصالحة الإسلاميين واستيعابهم ضمن خطة بناء جبهة داخلية قوية لمواجهة العدوان، حيث يقول لطفي “أؤكد أن الرئيس جمال عبدالناصر لو استمر على قيد الحياة كان سيجري هذه المصالحة بطريقة مختلفة تماما عمّا فعله السادات”. وقال لطفي لـ “العرب”، يمكن اختصار أسلوب السادات وأدائه مع الإسلاميين في عبارة الكاتب الراحل أحمد بهاءالدين “سداح مداح”، التي أطلقها على الانفتاح الاقتصادي كدلالة على عدم وجود ضوابط، حيث أطلق السادات غولا لم يستطع كبح جماحه، ووصفه بأنه “بطل تراجيدي” ارتكب خطأ أدى إلى نهايته، وأدرك ارتكابه للخطأ أثناء حياته، لكن كان من المستحيل إيقاف آثاره. وأضاف “يتحمل السادات المسؤولية كاملة وقد دفع الثمن غاليا، لأن الإخوان هم من اغتالوه وليس غيرهم، فكل تيارات العنف خارجة من عباءة هذه الجماعة، وتبنت أفكار سيد قطب، وأنا أرفض تصنيفات جماعات الإسلام السياسي وتسمياتها المختلفة، وهي أخطاء يقع فيها الإعلام، وربما من أرادوا تنقية صفحة الإخوان”. توظيف سياسي أشار المؤلف إلى أن الدولة لم تصنع الإسلام السياسي، لكنه ظهر كاستثمار لاتجاهات موجودة فعليا لدى المصريين، وحتى مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا لم يخلق هذه النزعة بل استثمر مخاوف المجتمع من التغريب والتبشير وفقدان هويته وحوّلها إلى تنظيم ودعوة سياسية. وشدد لطفي، الذي قدم للمكتبة العربية من قبل كتابين هما “ظاهرة الدعاة الجدد” و”دعاة السوبر ماركت”، على أن كل دعاة حقبة السبعينات أبناء جماعة الإخوان، مرّوا عليها وحملوا أفكارها وبعضهم انفصلوا عنها تنظيميا وليس فكريا، وبينهم شيخ الأزهر عبدالحليم محمود والشيخ محمد الغزالي والشيخ عبدالحميد كشك والشيخ محمد متولي الشعراوي. ومن بين صفحات الكتاب خصص المؤلف فصلا لتحليل مسيرة الشيخ الشعراوي الذي طالما تحدث عن كونه تلميذا لحسن البنا، لكنه اختلف معه لأسباب لا علاقة لها برفضه لفكر الجماعة بل لأسباب تكتيكية تتعلق بوقوفه ضد مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد. الكتاب رصد عوامل رئيسية أدت إلى إعادة السادات إطلاق الإخوان، أهمها قراره الشخصي وميله المحافظ ورغبته في أن يكون الرئيس المؤمن لدولة العلم والإيمان كان الشيخ محمد متولي الشعراوي أحد الدعاة المشهورين خلال حقبة السبعينات وما بعدها، وتمتع بشعبية جارفة ومازال يُنظر إليه من قبل البعض من المصريين بشيء من القداسة، مع ذلك انتقده لطفي بضراوة واعتبره استنساخا لتجربة واعظ أميركي يدعى بيللي جراهام، حيث الإتيان بواعظ مجهول وتحويله إلى نجم. وطرح تساؤلات حول أسباب اختيار الشعراوي، لاسيما أنه ظل غير معروف حتى بلغ الستين من عمره، وتعتبر تلك منطقة مظلمة أراد المؤلف تسليط الضوء عليها وتوضيح أسباب اختياره للظهور على شاشة التلفزيون وعلاقة ذلك بالسنوات التي مكثها في السعودية، لافتا إلى أن نظام الحكم في ذلك الوقت انتهج سياسة تقوم على استدعاء هؤلاء الدعاة لأداء دور سياسي مّا يصب في صالحه. لفت لطفي إلى أن الشعراوي كان يردد أنه ضد السعي للسلطة لكنه في المقابل كان مؤيدا لكل مفاهيم الإسلام السياسي، مع فرض الشريعة ومصادرة الحريات وتحريم الفن وعمل المرأة، وضد نقل الأعضاء ودخول غرفة الإنعاش، وأفتى بقتل تارك الصلاة وهو أمر في منتهى الداعشية، وأنا لا أتحدث عن الحكم الفقهي لكن عن تصدير الفتوى للملايين على أنها حقيقة. وسلّط الضوء على دور الشعراوي الذي ُقدم باعتباره إمام الوسطية والاعتدال في تديين المجتمع المصري، والترويج لشركات توظيف الأموال على حساب البنوك والاقتصاد الوطني، وانتقد ما قام به من دون خشية من ردود فعل الأوساط الشعبية المصرية التي ارتبطت به بشكل طاغ. وذكر لطفي أن “على الكاتب أن يختار بين المصالح الكبرى والصغرى، فالمصالح الصغيرة معروفة، وهي الانسجام مع المجتمع والعلاقات التي تؤدي إلى منافع، ومغازلة الثقافة السائدة، وهو ما لم أفكر فيه، لقد أردت إرضاء ضميري والتعبير عن قناعاتي، وأنا أؤمن بأن التغييرات الكبيرة يقوم بها أشخاص تتوافر لديهم الشجاعة الكافية، وأدّعي أنني أمتلكها، وعبّرت بلغة موضوعية دون اتهام أو إهانة أو تجاوز، وقدمت تحليلا مستخدما التاريخ، حيث أطرح وقائع وأقوم بتحليلها من وجهة نظر نقدية وليست عدائية”. وفسر تصاعد هذه الظاهرة وتعامل البعض مع الدعاة كقديسين، بأنه يعود إلى “الإلحاح في العرض، وعدم وجود من يهتم بمخاطبة الناس، وانعزال المثقفين أو انتهازيّتهم وهزيمتهم وقبولهم للحصار مقابل مكاسب معينة، كل تلك الأسباب حولت داعية مثل الشعراوي إلى أسطورة في الشارع فالجمهور لم يجد من يخاطبه سواه”. تضمن الكتاب فصلا لتحليل ظاهرة واحد من أشهر هؤلاء الدعاة الراحلين في مصر هو الشيخ عبدالحميد كشك، وكان صاحب موهبة في الخطابة اللاذعة واستخدم أسلوبا مبتكرا قوامه السخرية والكوميديا، ما جعله يصل إلى الملايين من المصريين، حاصدا جماهيرية طاغية رغم كونه كفيفا. جاء تعيين كشك في وزارة الأوقاف عام 1960، ولم يسمع به أحد طوال 15 عاما، ما يضع علامة استفهام أخرى، ويؤكد أن ثمة ظرفا سياسيا جعل من هؤلاء نجوما، وأن يداً معينة قررت أن تستخدم هذه النوعية من الدعاة في اتجاه معين. رأى لطفي أن كشك هو صاحب أول “توك شو” مصري، حيث كان يأتي بشخص ليقرأ له الصحف فيحدد الأخبار التي تستدعي التعليق، وفي كل خطبة جمعة لديه فقرة فنية وأخرى سياسية، أو مقالة يقرر مهاجمة كاتبها. تميزت موهبة كشك في الملكات الخطابية، ونادرا ما استخدم آيات وأحاديث، لأن سلاح السخرية كان بتارا في تشويه الفنانين، والمغرمين بفترة الستينات والحقبة الناصرية، وقام بتشويه المطربة أم كلثوم في سياق كونها أيقونة للمرأة المصرية وكبريائها وهي التي وقفت بعد هزيمة يونيو وجمعت التبرعات للمجهود الحربي. وتعمد إثارة أحقاد الفقراء على الفنانين، لاسيما أن المجتمع وقتها لم تكن فيه هذه الثروات الفاحشة أو رجال الأعمال، وكانت هذه الشريحة تبدو ثرية، فتحدث عن أجور الفنانين الباهظة، والتي تكفي لإطعام الجوعى وحل مشكلات الفقراء. يعد كشك واحدا من الدعاة الذين لعبوا دورا تخريبيا وأشعلوا الفتنة الطائفية في مصر، وكان المسجد الذي يلقي فيه خطبة الجمعة متواجدا في منطقة تعج بالأقباط، ونسج قصصا كاذبة ومختلقة وأتى بأشخاص يشهرون إسلامهم في المسجد، في وقت كان السادات نفسه في مواجهة محتدمة مع البابا شنودة بابا الأقباط في مصر. جريمة السادات أنه سمح بذلك في سياق أن كشك كان يهاجم خصوم السادات كي تتركه الدولة وأجهزتها يعمل، لكنّ ولاءه الأساسي كان لجماعة الاخوان، واستخدم خطابه في تحويل سيد قطب وحسن البنا والإخوان عموما إلى أساطير عبر اختلاق قصص غير حقيقية عنهم صدّقها الناس. الشعراوي كان يردد أنه ضد السعي للسلطة لكنه في المقابل كان مؤيدا لكل مفاهيم الإسلام السياسي، مع فرض الشريعة ومصادرة الحريات وتحريم الفن وعمل المرأة لم يكتف لطفي ضمن صفحات كتابه بعرض نماذج مختلفة من الدعاة المشاهير، بل تطرق إلى السياسيين الذين أسهموا في رواج هذه الظاهرة، ومن بينهم محمد عثمان إسماعيل الذي كان عضوا في مجلس الأمة وأمين الاتحاد الاشتراكي، ولم يكن إسماعيل من الدعاة لكن أحد الأدوات التنفيذية لوصولهم، فسلط الضوء على كشك بوصفه مؤسس الجماعة الاسلامية في الجامعات تحت اسم “شباب الإسلام”. هناك شخصيتان استخدمهما السادات في مفاوضاته مع الإخوان وإعادة إطلاق التيار الإسلامي، هما محمد عثمان إسماعيل، ومحمود جامع الذي كان صديقا للسادات، وهو الذي أتى بالشعراوي، وسافر للتفاوض مع قيادات الإخوان في الخارج، ولعب أدواراً كثيرة، وينتمي للإخوان فكريا. لعل السمة الغالبة التي تجمع بين دعاة فترة السبعينات أنهم خرجوا من دولاب الدولة المصرية، وشغلوا حقائب ووظائف حكومية، وعندما تركوها شاركوا في أخونة المجتمع، وحدثت خلافات لاحقة بعد توقيع السادات اتفاقية سلام مع إسرائيل، وهنا حدث الفراق الذي انتهى باغتياله. وأوضح لطفي لـ”العرب”، أن ما طرحه حول علاقة هؤلاء الدعاة بالفكر الإخواني تعرفه أجهزة الدولة المصرية، فكل داعية كان متأثرا بالجماعة كان يؤدي مصلحة وظيفية للدولة في زمن معين وبالتالي كانت تدعم وجودهم. ارتبطت أجيال الدعاة بوسائل اتصال كانت سائدة في عصرها، ورصد الكتاب أسباب تضخم شعبية دعاة حقبة السبعينات وأرجعها إلى ظهور شرائط الكاسيت وانتشار التلفزيون حيث لعبا دورا في رواجهم، فانتشرت شرائط الدعاة السلفيين، وكانت هناك إمبراطورية ضخمة لها، وتم تشغيلها في وسائل النقل الجماعي، كوسيلة نشر لخطب الدعاة قبل ظهور الفضائيات والإنترنت، وفي مقدمتهم الشيخ كشك الذي ارتبط بظهور الكاسيت، فيما ارتبطت شهرة الشعراوي بالتلفاز وظهوره عليه بشكل متواصل، ما ساهم في التسلل إلى شرائح عديدة داخل المجتمع المصري. اهتم كتاب “دعاة عصر السادات” برصد الأثر الاجتماعي لهؤلاء الدعاة، ووصفه بـ “التسلل الناعم”، وعن ذلك قال لطفي لـ “العرب”، “وفقا لمصطلحات العلوم السياسية البحتة وليس الأحكام الأخلاقية ينقسم الإسلاميون إلى ثوريين راديكاليين وإصلاحيين، ولا يعني ذلك بالضرورة أنهم ثوريون أو إصلاحيون حقيقيون، فقد أطلق لفظ ‘الثوريون’ على جماعات العنف التي خرجت من رحم الإخوان المسلمين، مثل ‘تنظيم 65′ و’تنظيم الفنية العسكرية’ و’التكفير والهجرة’ و’الجهاد’ و’الجماعة الإسلامية’، وصولا إلى ‘داعش’ وولاية سيناء”. أما الإصلاحيون “فهم من يحاولون التغيير من أسفل مستخدمين التغيير الناعم، وهم من ربحوا الرهان وقاموا بأسلمة المجتمع، وجعلوا وجود الإخوان حقيقة واضحة حتى وصلوا إلى الحكم بعد ثورة يناير 2011 دون استخدام العنف، لكن عبر هؤلاء الدعاة والعمل الأهلي والجمعيات الخيرية، وشركات التوظيف، والمدارس الإخوانية، والجمعيات الأهلية التي تدفع مساعدات وتلعب دور الدولة”. وكل ذلك يمكن اعتباره من أدوات “الإصلاحيين”، وهو الدور المجتمعي للإخوان الذي سمح به نظام الرئيس الراحل حسني مبارك عبر التواجد بين الجماهير، مقابل التضييق على الأحزاب السياسية، فكان الهبوط الناعم أحد أهم أدوات الدعاة الجدد، لأنه ينقل الفكرة إلى الملايين ويؤثر فيهم. الرئيس الراحل أنور السادات هو من أعاد إحياء تنظيم الإخوان المسلمين ومنحه أدوات قوة صناعية لينتصر على التيارات الأخرى استخدم وائل لطفي في كتابه أسلوبا استقصائيا، حيث تتبع سيرهم ولجأ إلى تحليل المادة العلمية، وساعده في ذلك الاستعانة باليوتيوب وقراءة الأرشيف الصحافي لهم والاستماع إلى دروسهم والبحث عن بعض الكتب النادرة، وهو ما استغرق كثيرا من الوقت، فمكث ثلاث سنوات للعمل على إنتاج هذا الكتاب الذي اعتزم تسميته “دعاة السبعينات”، لكنه ارتأى أن تسميته بـ”دعاة السادات” تمنحه بعدا جماهيريا. وقال إن هناك كسلا وخجلا في التعامل مع الظاهرة الإسلامية والدعاة، والباحثون الذين درسوا هذه الظاهرة كانوا من أنصار دمج الإخوان، وبينهم أسماء كبيرة. ينتمي وائل لطفي لمدرسة صحافية امتلكت الجرأة والقدرة على الاشتباك مع بعض الدعاة في أوج سطوتهم، وكانت البداية في مجلة “صوت الجامعة”، ثم مجلة “روز اليوسف”، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية عن كتابه الأول “ظاهرة الدعاة الجدد” عام 2008، ما شجعه على متابعة هذه القضية.
مشاركة :