في الثاني عشر من سبتمبر/ أيلول الماضي، أسفرت انتخابات اختيار قيادة جديدة لحزب العمال البريطاني، عن فوز ساحق للسياسي اليساري المتطرف، جيرمي كوربن (66 عاماً)، عضو البرلمان عن مقاطعة إيسلنجتون، منذ عام 1983، إذ حصل على 251 ألفاً و417 صوتاً تمثل 59.5 في المئة من الأصوات من الجولة الأولى. كوربن هزم وزيرين سابقين من حزب العمال، هما إيفيت كوبر وآندي برنام، كما هزم ليز كندال التي تعتبر ممثلة للسياسات التي يؤيدها رئيس الوزراء السابق توني بلير. ويعد هذا الفوز مفاجأة غير مسبوقة في تاريخ البرلمان البريطاني، وغير مسبوقة أيضاً في تاريخ انتخاب زعيم حزب العمال. والمفاجأة أيضاً أن ثمة 50 ألف عضو جديد من الشباب، أعمارهم بين 25 و35 سنة، انتسبوا إلى العمال خلال حملة الانتخابات على مدى ثلاثة أشهر. وبعد مرور ثلاثة أيام فقط على إعلان فوز كوربن انتسب إلى العمال 15 ألف عضو جديد، إذ أن كوربن لم يفز فقط بقيادة حزب العمال بل بات أيضاً المتحدث الرئيسي باسم المعارضة البرلمانية الذي يساجل رئيس الحكومة ديفيد كاميرون وجهاً لوجه في مجلس العموم حول قضايا الساعة، ظهيرة كل يوم أربعاء طوال 40 دقيقة، بطرحه ست قضايا للمناقشة. وقد اعتبر بعض المراقبين فوز كوربن الساحق بمثابة عودة مظفرة لليسار. فالشيء اللافت للانتباه هو تصادف فوز كوربن مع صعود اليسار المتطرف في أوروبا، ممثلاً في حزب سيريزا بزعامة أليكسيس تسيبراس في اليونان، وحزب بوديموس بزعامة بابلو ايغلاسياس في إسبانيا، والصعود اللافت للنظر، للمرشح الاشتراكي بيرني ساندرز في السباق الرئاسي الأمريكي. وتعكس الجاذبية التي يحظى بها كوربن ورفاقه في أوروبا الغضب العميق وعدم الثقة السائدين في الكثير من الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، تجاه الطريقة التي أدارت بها الحكومات في هذه الدول المؤسسات المالية منذ الأزمة الاقتصادية عام 2008. فالبنوك التي ساهمت في الأزمة في المقام الأول بسبب سياسات منح القروض غير المسؤولة، والمضاربة في أسواق صناديق التحوط، كانت هي نفسها التي استفادت من حزم الإنقاذ التي تحمل أعباءها دافعو الضرائب على أساس أنه غير مسموح لها بالسقوط. ولم يحاسب سوى القليلين ممن تسببوا في تلك الأزمة، في حين تحمل الناس العاديين العبء الأكبر من خلال الضرائب التي دفعوها، ومنذ عام 2008 تزايدت الفجوة بين كبار الأغنياء والباقين. ومن ناحية ثانية، فإن انتخاب كوربن جاء تعبيراً عن رفض تام للفلسفة العمالية التي نادي بها رئيس الوزراء الأسبق توني بلير، الذي شكل قطيعة مع مبادئ الحزب الاشتراكية التقليدية، وتبنى مبادئ ملطفة لاقتصاد السوق، وهو ما سماه بلير الطريق الثالث، ما بين الاشتراكية والرأسمالية، أو اشتراكية ديموقراطية كما نصها تعديل غير مسبوق أقره الحزب للمادة الرابعة من دستوره في عام 1995 عقب توليه رئاسة الحزب عام 1994. وهو ما أوقع الحزب في تناقضات عدة، سواء على مستوى المجموعات والتيارات المختلفة داخل الحزب، أو على مستوى خططه وسياساته المالية والاقتصادية التي تبناها أثناء حكمه، وأفضت إلى انكشاف كبير لليسار البريطاني، وانتهت بهزيمة قاسية لالعمال واليسار، في انتخابات عام 2010 العامة. وقد تسبب إرث البليرية، إضافة إلى عوامل داخلية أخرى، في تضعضع حزب العمال داخلياً بسبب فقدان الثقة بالخطاب التقليدي الذي درج عليه العماليون ما بعد البليرية، فثمة شرائح شبابية وعمالية ناقمة على أداء الحزب وغربته عن مبادئه وتخبطه التنظيمي، الذي ظهر للعلن في هزيمته المرة في آخر انتخابات عامة ترشح لها زعيمه إد ميليباند في يونيو/ حزيران الماضي. وفي هذا السياق جاء فوز كوربن الذي يركز خطابه على قضايا لا تبعد عن الوسطية في مقاربتها للقضايا المعيشية، لكنه يبنيها على قيم لا تقبل التسويات وتنهل من المعجم اليساري التقليدي، ففي السياسات الداخلية يطرح كوربن خياراً اقتصادياً مفاده أن الإجحاف ليس شيئاً لا مناص منه، والفقر ليس قدراً محتوماً، وأن تغيير الأمور ممكن وسوف تتغير. فهو يدافع عن إعادة تأميم خطوط السكك الحديدية البريطانية، وشركات الطاقة الرئيسية في بريطانيا، وإذا تولى الحكم فسوف يفرض ضرائب أعلى على الأغنياء، ويفوض بنك إنجلترا بطبع المزيد من النقود لاستثمارها في مشروعات عامة لتطوير مشروعات إسكانية، ومشروعات بنية أساسية جديدة، كما سيطبق خدمة تعليمية وطنية ستوفر، شأن الخدمة الصحية، تعليماً مجانياً في جميع المستويات الدراسية. وعلى مستوى السياسات الخارجية، غالباً ما يغرد كوربن خارج السياسات السائدة في بريطانيا وفي أوساط النخبة الحاكمة، بل إنه غالباً ما عارض سياسات حزب العمال، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط أو العلاقة مع الولايات المتحدة. فهو دائم الانتقاد لإسرائيل وسياسة بناء المستوطنات. وقد صوت كوربن سابقاً في البرلمان البريطاني لمصلحة الاعتراف بدولة فلسطين. كما أنه يؤيد حركة حماس الفلسطينية، وحزب الله اللبناني علناً. كما لا يخفي كوربن موقفه المعارض بشدة للمشاركة البريطانية في غزو العراق في عام 2003، وقد صرح في أكثر من مناسبة أن الوقت قد حان ليقدم حزبالعمالاعتذاره للشعب البريطاني لتوريطه في الحرب على العراق بذريعة كاذبة، وإلى الشعب العراقي على المعاناة التي ساهمنا في التسبّب بها. بل إنه دعا، أخيراً، إلى وجوب محاكمة بلير إذا ما ثبت تورطه في تضليل البرلمان البريطاني للحصول على تفويض للمشاركة في غزو العراق. ويعارض كوربن تدخل القوات البريطانية في العراق وسورية، وهو مناوئ صريح للسياسة الأمريكية، ويرغب في إخراج بريطانيا من الناتو، وإلغاء الترسانة النووية البريطانية (ترايدنت). ومعارضته التدخل الغربي في أوكرانيا، ويرى أن محاولة الناتو تطويق روسيا هي واحدة من التهديدات الكبرى في عصرنا. كما كان صديقاً مقرباً للأخوين فيدل وراؤول كاسترو، والرئيس الفنزويلي السابق هوجو شافيز. وفي حين يعتبر بعض المراقبين أن فوز كوربن بزعامة حزب العمال يضفي الكثير من الحيوية على الساحة السياسية البريطانية، فإن ثمة من يرى أن كوربن سيكون شخصية جدلية داخل الحزب وخارجه، لأنه يحمل برنامجاً سياسياً واقتصادياً راديكالياً لا يتماشى مع السياسات البريطانية، ولا حتى مع أيديولوجية حزب العمال، ويخشى كثيرون داخل حزب العمال أن يؤدي فوز كوربن إلى عودة الحزب إلى سنوات التيه والضياع بين 1979 و1997، على اعتبار أن كوربن ابن القناعات السياسية المجردة، وغير المساومة التي رفضت من البريطانيين مراراً وتكراراً. ولعل ما يفسر صعوبة، إن لم يكن استحالة، مهمة كوربن في المحافظة على وحدة الحزب في الأشهر المقبلة، هو أنه لم يحصل إلا على 20 صوتاً من برلمانيي حزبه الذين تقلص عددهم إلى 232 عضواً، وهي أدنى نسبة تصويت برلماني يحصل عليها أي زعيم سابق لحزب العمال، لاسيما أن كوربن يواجه اليوم تحدي حصول تمرد من فريق توني بلير وخلفه غوردن براون وبعض يسار الوسط (قدم ستة من وزراء حكومة الظل العمالية المعارضة استقالتهم فور فوز كوربن برئاسة الحزب)، ويعود ذلك إلى طبيعة تركيبة حزب العمال نفسها، إذ أن هذا الحزب عرف دائماً بأنه حزبان في العمق: واحد ديموقراطي/ اجتماعي التكوين، وآخر اشتراكي/ يساري. وللحزب الآن قائد يساري مع عضوية واسعة غاضبة وغير منسجمة مع جزئه البرلماني الوسطي. وهذا لا يعني أن نحو 200 من أعضاء العمال البرلمانيين سيخططون من الآن، بالضرورة، لإطاحة كوربن، إذ نصف هؤلاء على الأقل يعتمدون على دعم نقابي. لكن الخلافات بين العمال التي قد تتطور إلى انشقاقات سياسية ستجعل الحزب يبدو في حالة تهالك تدريجي لا يدرك بالضرورة ال 251000 عضو الذين صوتوا لكوربن أبعادها الخطيرة الآن، لكنهم سيشعرون بها مع اقتراب موعد الانتخابات العامة المقبلة في 2020. ويعتقد العديد من نواب الحزب أن كوربن لن يقود العمال إلى تلك الانتخابات، لكنهم يعتقدون في الوقت نفسه أن إطاحته واستبداله خلال عامين من الآن سيكونان عملية صعبة نتيجة فوزه المبهر. والسيناريو المتوقع أن يُجبر كوربن على التنحي وإفساح الطريق أمام أي مرشح يساري آخر في انتخابات الزعامة المقبلة، بحيث يتوجه اليسار والكتل النقابية في الحزب نحو تأسيس حزب اشتراكي. إذ من غير المرجح أن يفوز كوربن في انتخابات عامة بمثل هذه الأجندة الراديكالية. لكن على أية حال يفتح فوز كوربن التاريخي آفاقاً واسعة أمام تشكيل خريطة سياسية جديدة، قد يصل أثرها إلى ما وراء بريطانيا الأوروبية. فصعوده لقيادة الحزب يمثل بحد ذاته أمراً لافتاً لا يمكن تجاهله، لاسيما من قبل الأحزاب الحاكمة في الغرب، ومهما بدت مواقف كوربن مثالية وبعيدة عن الواقع، على حد تعبير رئيس الوزراء الأسبق توني بلير، إلا أنها جديرة بالاهتمام، لاسيما أنها تُنذر بخمس سنوات ساخنة بين حكومة المحافظين وحزب العمال المعارض في نسخته الأكثر يسارية. * باحث وصحفي في مجلة الديمقراطية بمؤسسة الأهرام
مشاركة :