تداعيات الانتخابات اليونانية على ضوء تجديد التفويض الشعبي لحزب سيريزا كانت دعوة رئيس الوزراء اليوناني وزعيم الحزب اليساري، أليكسيس تسيبراس، في أغسطس/آب الماضي بالذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة، عملية محفوفة بالمخاطر ورهاناً لا يخلو من مجازفة غير مأمونة العواقب، قد تفقد الحزب السلطة التي تبوأها في اليونان عقب فوزه التاريخي في انتخابات 25 يناير/كانون الثاني الماضي، لاسيما بعد رضوخ الحزب لمطالب الترويكا الدائنة والتوقيع على اتفاق خطة الإنقاذ الثالثة في يوليو/تموز الماضي، التي تضمنت إجراءات تقشف صارمة، متخلياً عن مبادئه اليسارية ووعوده الانتخابية. لكن نتائج الانتخابات اليونانية المبكرة، التي جرت في 20 سبتمبر/ أيلول الماضي، أسفرت عن فوز حزب سيريزا بالمركز الأول بنسبة 35.46 في المئة، و145 مقعداً، وحل في المركز الثاني حزب الديمقراطية الجديدة المحافظ بحصوله على 75 مقعداً بنسبة 28.10 في المئة. في حين لم يتمكن حزب الوحدة الشعبية اليساري المنشق عن سيريزا، الذي يترأسه وزير الطاقة السابق بانايوتيس لافازانيس، من تجاوز نسبة الثلاثة في المئة، المطلوبة لدخول البرلمان، حيث حصل على 2.86 في المئة من الأصوات. وهذه النتيجة، رغم أنها لا تحقق الأغلبية المريحة، فإنها جددت التفويض الشعبي لحكومة سيريزا بزعامة تسيبراس، وهو ما يطرح بقوة سؤالاً: لماذا منح الناخبون اليونانيون حزب سيريزا فرصة ثانية رغم أنه لم يف بوعوده السياسية وتخل عن برنامجه الانتخابي المعارض للتقشف؟ وتكمن الإجابة في أن الناخبين اليونانيين يعتقدون أن حزب سيريزا بزعامة تسيبراس هو الأقل سوءاً لأنه يمثل خروجاً عن الزعماء السابقين الذين ينظر إليهم كفاسدين، وعن نظام حكم قديم أوصل البلاد إلى الأزمة التي تعانيها حالياً. ومن ناحية ثانية، فإنهم يعتقدون أنه الحزب الوحيد الذي سيتفاوض مع الاتحاد الأوروبي، للتخفيف من وطأة اتفاق الإصلاحات ومن ثم الأزمة الاقتصادية، بالنظر لقناعاته الإيديولوجية. فهو سَيُطَالِب بتنازلاتٍ مقابل رضوخه للمطالب الأوروبية. أما الأحزاب الأخرى، لاسيما حزب المحافظين، فهو أصلاً مقتنع أيديولوجياً بوصفة العلاج التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على اليونان. وقد اختار تسيبراس تجديد التحالف مع الحزب اليميني الصغير المستقلّون اليونانيون، الذي احتفظ رئيسه، بانوس كامينوس، بحقيبة وزارة الدفاع. ومن المحتمل أن تكون التشكيلة الجديدة لحكومة تسيبراس أكثر تماسكاً على المستوى الإيديولوجي، لأنها هذه المرة عليها الالتزام بحملة تسيبراس الذي تعهد بوضوح باحترام شروط برنامج الإنقاذ. إذ انهارت الحكومة سيريزا السابقة جزئيّاً بسبب الوعود الانتخابية الغامضة، والتي أدت إلى الصراع داخل الفصائل المختلفة للحزب. بيد أن هذا الفوز لا يخلو من تحديات وتداعيات، يونانياً وأوروبياً: يونانياً، من ناحية أولى، فإن حكومة تسيبراس تواجه الآن مهمة شاقة متمثلة في تحقيق التوافق في مجتمع منقسم يعاني منذ سنوات طويلة التقشف، فالحكومة ستبقى مكونة من نفس الحزبين اللذين شكلا الحكومة السابقة، ولذلك ستبقى البلاد معرضة للأزمة وعدم الاستقرار، لاسيما أن هذه الحكومة تحوز عدد أقل من مقاعد البرلمان (حازت الحكومة الأولى 12 مقعداً فوق الأغلبية، في حين تحوز الآن على 5 مقاعد فقط)، وهذا يعني أن تسيبراس سوف يكون أكثر حذراً في إدارة نزاعاته. ومن ناحية ثانية، سيواجه تسيبراس وحكومته مزايدات الجناح اليوناني المتطرف الذي سيرصد تحركاته خلال مدة رئاسته الجديدة، لاسيما أن الجزء الأكبر من الشباب اليوناني الذي كان متحفّزاً خلف تسيبراس في الشتاء والربيع الماضيين، تخلّى عنه، من دون التحوّل إلى أحزاب أخرى. ففي أثينا كلام كثير من نوع تسيبراس الخائن أو تسيبراس المُخادع. كما أظهر استطلاع للرأي نشرته صحيفة ايثنوس مطلع سبتمبر/ أيلول الماضي، تراجع نسبة التأييد لسيريزا إلى 18.6 في المئة لدى الفئة العمرية بين 18 و34 عاماً، مقارنة مع أكثر من 30 في المئة في يناير/ كانون الثاني الماضي. وأوروبياً، صحيح أن مسار حزب سيريزا ألهم يساريي أوروبا، وبدا تسيبراس أقرب إلى البولندي ليش فاليسا في ثورة التضامن البولندية في مرفأ غدانسك، ضد السوفييت مطلع ثمانينات القرن الماضي، وفتح الباب مع اليسار الاشتراكي للتمدد في أوروبا، حيث صعد الزعيم اليساري جيرمي كوربون إلى رئاسة حزب العمال في بريطانيا ويتقدم اليسار الاشتراكي في إسبانيا. لكن الصحيح أيضاً أن تسيبراس خرج عن برنامجه الانتخابي. وهناك من يرى الآن أن درس سيريزا سيكون مفيداً عموماً للأحزاب اليسارية المتطرفة في أوروبا، حيث اضطر الحزب لتشذيب وتهذيب كثير من خطابه الراديكالي، بل أرغم أحياناً على التراجع عن كثير من وعوده الانتخابية غير الواقعية. فممارسة الحكم لها ضروراتها، ولا يمكن أن تتم إلا بلغة السياسة الواقعية، ولا مكان فيها للرومانسية الثورية. وثمة من بات يرى الحزب بصيغته الحالية على أنه قد أصبح حزباً اشتراكياً ديمقراطياً، لا غير. بل إن هناك من يرى أن توالي الإخفاقات الاقتصادية والتحولات الإيديولوجية وسط أغلبية سكانية مناهضة للتقشف، من شأنها أن تؤدي لضمور جاذبية سيريزا ودخوله في حالة بيات سياسي، وصولاً أي الدخول في مجاهل النسيان، في النهاية. وفي المقابل، يرى آخرون أن فوز سيريزا، في ثاني انتخابات تشريعية متتالية في اليونان، يمثل مشكلة للأحزاب التقليدية المعتدلة، اليسارية واليمينية، في أوروبا، لأنه فاز مرتين، وعلى التوالي، في انتخابات تشريعية، ما يعني أن خطاب اليسار المتطرف في أوروبا يجد آذاناً صاغية، وحتى ترحيباً ودعماً لدى الناخبين. والشيء نفسه يقال تقريباً عن اليمين المتطرف. هكذا تواجه أحزاب يمين الوسط، التقليدية المعتدلة، اليوم، أحزاباً راديكالية في السلطة (في اليونان)، فيما الوصول إليها بالنسبة لأخرى قاب قوسين أو أدنى (إسبانيا والبرتغال). ومن منظور انتخابي بحت، تجد الأحزاب التقليدية المعتدلة صعوبة في مواجهة اليسار الراديكالي، عكس اليمين الراديكالي، لأن الأخير يحمل أفكاراً وطروحات عنصرية، تجعله مرفوضاً لدى أوساط معتبرة من الشعب. وبالتالي، تحدّ طبيعته العنصرية، بعض الشيء، من تصلب عوده، بينما لا يعاني اليسار الراديكالي هذه العقبة. ومن ناحية ثانية، قد يكون ملف الهجرة واللجوء من أبرز الملفات التي ستواجه اليونان تحديداً، لأسبابٍ جغرافية ومالية، حيث وصل إلى اليونان أكثر من 310 آلاف شخص منذ بداية العام الحالي. ووسط استقطاب أوروبي حاد بشأن سبل مواجهتها، فإن فوز تسيبراس سيكون في صالح اللاجئين. فحكومة يسار راديكالي لا يتوقع أن تخاطر، حتى لو حوصرت سياسيا، بصد اللاجئين ومواجهتهم. إذ انتقد تسيبراس التعامل القاسي لدول أوروبا الشرقية مع المهاجرين، مؤكداً أن هوية أوروبا على المحك، مشيراً إلى أن إدارته ضد منطق تحول الحدود الأوروبية إلى ساحات قتال وبحارنا إلى مقابر مائية. ومن ناحية ثالثة، ربما ستلعب الشرعية السياسية المتجددة لحزب سيريزا دوراً أساسياً في تجدد المواجهة الإيديولوجية مع الجهات الدائنة، فهو الحزب الذي وقع على اتفاق تقشف مكرهاً، وهو أيضا من حاز الشرعية مجدداً، لأداء مهمة في غاية التعقيد: التخفيف من وطأة هذا الاتفاق، والحصول على مزيد من الدعم من أوروبا، خصوصاً أنه يعلم أن انهيار اليونان اقتصادياً يشكل كابوساً لمنطقة اليورو خصوصاً، والاتحاد الأوروبي عموماً. وكان تسيبراس أظهر نواياه التفاوضية مع الجهات الدائنة وطمأنها عبر تشكيلة حكومته الجديدة، إذ احتفظ وزير المالية في الحكومة السابقة، إكليدس تساكالوتوس، مهندس خطة الإنقاذ الجديدة لليونان، بحقيبته. وعين في منصب مساعد وزير المالية جورج خولياراكيس، الذي كان وزيراً للمالية في حكومة تصريف الأعمال، وكان قبل ذلك كبير المفاوضين اليونانيين في المباحثات على خطة الإنقاذ الثالثة، بل وأعلن تسيبراس، بعد أربعة أيام فقط من فوزه الانتخابي، أنه يتعين على اليونان أن تطبق سريعاً خطة الإنقاذ الثالثة التي تم الاتفاق عليها مع الجهات الدائنة في تموز/ يوليو الماضي، من خلال تأكيده عزم البرلمان التصويت اعتباراً من شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل على أكثر من 15 إصلاحاً مهماً. لكن محاولة تسيبراس إقناع دول منطقة اليورو، بإعفاء جزء من ديون اليونان، ستبدو عملية شاقة، وإن لم تكن مستحيلة، فثمة توقعات بأن يكون الدائنون متساهلين مع تسيبراس بالنظر إلى تراجع حدة خطابه الإيديولوجي على مدى الأشهر التسعة الماضية، وذلك بهدف منع حدوث أزمة سياسية جديدة، بيد أن هناك حدوداً لصبر الدائنين. ووجود برنامج للإنقاذ مع تقارير مؤشرات أداء ثابتة سوف يخلق فرصاً متعددة للصدام بين أثينا ودائنيها. في حين إن إدخال تدابير التقشف ربما يؤدي إلى تآكل الدعم الشعبي لحكومة تسيبراس الجديدة، وتباطؤ وتيرة الإصلاح في النهاية. علاوة على أن الاقتصاد اليوناني ينمو ببطء شديد، ما يقلل من احتمال أن أثينا سوف تتخلص من ديونها في أي وقت قريب. وستبقى ديون اليونان لا يمكن تحملها، ورغم أن تهديد جريكسيت (Greekexit) (خروج اليونان من منطقة اليورو) قد تم تجنبه مؤقتاً، فإنه لم ينته كلياً. *صحفي وباحث مجلة الديمقراطية مؤسسة الأهرام
مشاركة :