«من يامبو؟ رجلٌ يفيق من الغيبوبة ليجد نفسه قد نسي كلَّ شيء: عائلته، ومهنته، وماضيه، وأصدقاءه، وطفولته، والنساء اللواتي أحبهنَّ! ومثّلما يحدث في لُعبة البحث عن الكنز؛ فإنَّ ذاكرة يامبو لا تمتلك في البداية إلا ذكريات الأشياء التي قرأها. وبعد ذلك، بفضل شعلة خفية تسري في فؤاده عندما يمسّ قاع حياته المنقضية، يعثر على بعض محطات رحلته حين كان يافعًا خلال عهد موسوليني. تصيبه وعكة جديدة بسبب تهيّج شديد في عواطفه تؤدي به إلى الغيبوبة ثانية، وحينذاك، في خلسة عن الجميع يتذكر يامبو: يتذكر دوره المأساوي في مقاومة الاستبداد، وجده المحبوب وانتقامه الأسطوريّ، وغرانيولا الأنارشي الشيطاني والودود، وفوق كلّ ذلك يتذكر حبَّ شبابه الذي لا يُنسى: ليلا. وفي خلال البحث عن حبيبته الشابة تستعيد هذه الرواية، بعين الطفل، السيرة العائليّة والسياسيّة لعشرين عامًا من الحقبة الفاشية الإيطاليّة» هكذا كتب جان_نويل سكيفانو في مقدمة ترجمته الفرنسّة لهذه الرواية. أُمبَرْتو إيكوUmeberto Eco (1932_2016) فيلسوفّ وسيميائيّ وناقد وروائيّ إيطاليّ من أبرز مؤلفاته الروائية: «اسم الوردة»، و«بندول فوكو»، و«جزيرة اليوم السابق»، و«باودولينو»، و«مقبرة براغ»، و«العدد صفر». ومن مؤلفاته العلمّية الأكاديميّة: «العمل المفتوح» و«البنية الغائبة»، و«القارئ في الحكاية»، و«السيميائيّة وفلسفة اللغة»، و«حدود التأويل»، و«البحث عن اللغة الكامنة»، و«ست رحلات في غابة السرد»، و«كانط وخلد الماء»، و«في الأدب»، و«أن تقول الشيء نفسه تقريبًا»، و«من الشجرة إلى المتاهة»، و«كتابات في الفكر الوسيط»، و«وتاريخ البقاع والأماكن الأسطورية»، والإشراف على الكتابين المصوّرين «تاريخ الجمال» و«تاريخ القبح». إنَّ رواية «الشُّعلة الخفية للملكة لُوانا» هي سيرة ذاتية موازية لأمبرتو إيكو على الرغم من عدم تصريحه بأنَّ السارد هو إيكو نفسه، وعلى الرغم من عدم تصريحه بميثاق السيرة الذاتية وفق مصطلح الناقد الفرنسيّ فيليب لوجون. وعلى الرغم من كلِّ هذا التمويه والغموض إلا أنَّ هذه الرواية هي سيرة إيكو الذاتية فعلاً! ولقد تعامل معها بوصفها نصًا مفتوحًا قابلاً للتأويل! واحتفى بها كذلك في أنساقها الرمزية، وفي سيمائيتها البصرية؛ فهذه الرواية تضمُّ العشرات من الصور المأخوذة من مكتبة أُمبرتو إيكو الشخصية. وإذا كان «احتراق المكتبة والاستحواذ على المعرفة» هي الثيمة الأساسيّة لرواية «اسم الوردة» فإنَّ رواية «الشُّعلة الخفية للملكة لُوانا» تدور حول انفجار الموسوعة وتبعاته في زمن ما بعد الحداثة وخشية عدم القدرة على استردادها بموسوعة مثلها، كما يذكر مترجمة نسخة هذه الرواية إلى العربيّة معاوية عبدالمجيد. «الذاكرة هي الروح» هكذا يقول إيكو، وفي روايته «اسم الوردة» يقول السارد «فهم غوليالمو أنه يمكننا أن نطفئ الحريق بيدينا، وقرّر أن ينقذ الكتب بالكتب». وفي هذه الرواية «الشُّعلة الخفية للملكة لُوانا» يفقد البطل/ السارد ذاكرته ثم يستعيدها بدلالة ما، بالعقل والفكر والاستنتاج لإعادة تكوينها وإنشائها من جديد، وفي هذه الرواية تكون ذاكرة السارد ذاكرة موسوعيّة لانهائية تبدأ بالتاريخ وتنتقل إلى الجغرافيا، وعلم الأعصاب، والفلسفة، والدين، وأزياء الشعوب، والفاشية، والطفولة، والروايات الدفينة، والرسم، والسينما، وأرشيف الورق، والإغواء، والشهوة، والحبّ. ويعود إيكو إلى عشرات الكتب من المجلات، وقصص الأطفال المصوّرة، والوثائق التاريخيّة في مكتبته العائدة إلى حقبة الفاشية الإيطالية عندما كان طفلاً صغيرًا. يقول إيكو: «بدأتْ تتوضَّح بعض المعالم الغامضة من طفولتي الشيزوفرينية.كنتُ أقرأ الكتب المدرسية والقصص المرسومة، ومن الوارد أنني بقراءة القصص المرسومة كنتُ أؤسس وعيي المدني بمشقة». وصف بعض النقاد الغربيين هذه الرواية بأنَّها قريبة الشبه من رائعة الروائيّ الفرنسيّ مارسيل بروست «بحثًا عن الزمن المفقود»، وإذا كانت رواية بروست قد أرست تقاليد خاصة للسرد الروائيّ في احتفائها بالزمن، وفي بنيتها النصية الكاتدرائية في إحالاتها الموسوعية فإنَّ رواية إيكو تحتفي كذلك بانفجار الموسوعة في عصر انفجار الموسوعات الحقيقيّة والافتراضية! رواية «الشُّعلة الخفية للملكة لُوانا» في ترجمتها العربيّة صادرة عن دار الكتاب الجديد المتحدة بترجمة رصينة للمترجم السوري معاوية عبدالمجيد. أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المساعد، كلية الآداب، جامعة البحرين.
مشاركة :