سـرديـات: انفجار الموسوعة في عصر ما بعد الحداثة... «الشُّعلة الخفيَّة للملكة لُوانا» لأُمبَرْتو إيكو!

  • 5/22/2021
  • 01:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

‮«‬من‭ ‬يامبو؟‭ ‬رجلٌ‭ ‬يفيق‭ ‬من‭ ‬الغيبوبة‭ ‬ليجد‭ ‬نفسه‭ ‬قد‭ ‬نسي‭ ‬كلَّ‭ ‬شيء‭: ‬عائلته،‭ ‬ومهنته،‭ ‬وماضيه،‭ ‬وأصدقاءه،‭ ‬وطفولته،‭ ‬والنساء‭ ‬اللواتي‭ ‬أحبهنَّ‭! ‬ومثّلما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬لُعبة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الكنز؛‭ ‬فإنَّ‭ ‬ذاكرة‭ ‬يامبو‭ ‬لا‭ ‬تمتلك‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬إلا‭ ‬ذكريات‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬قرأها‭. ‬وبعد‭ ‬ذلك،‭ ‬بفضل‭ ‬شعلة‭ ‬خفية‭ ‬تسري‭ ‬في‭ ‬فؤاده‭ ‬عندما‭ ‬يمسّ‭ ‬قاع‭ ‬حياته‭ ‬المنقضية،‭ ‬يعثر‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬محطات‭ ‬رحلته‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يافعًا‭ ‬خلال‭ ‬عهد‭ ‬موسوليني‭. ‬تصيبه‭ ‬وعكة‭  ‬جديدة‭ ‬بسبب‭ ‬تهيّج‭ ‬شديد‭ ‬في‭ ‬عواطفه‭ ‬تؤدي‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الغيبوبة‭ ‬ثانية،‭ ‬وحينذاك،‭ ‬في‭ ‬خلسة‭ ‬عن‭ ‬الجميع‭ ‬يتذكر‭ ‬يامبو‭: ‬يتذكر‭ ‬دوره‭ ‬المأساوي‭ ‬في‭ ‬مقاومة‭ ‬الاستبداد،‭ ‬وجده‭ ‬المحبوب‭ ‬وانتقامه‭ ‬الأسطوريّ،‭ ‬وغرانيولا‭ ‬الأنارشي‭ ‬الشيطاني‭ ‬والودود،‭ ‬وفوق‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك‭ ‬يتذكر‭ ‬حبَّ‭ ‬شبابه‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُنسى‭: ‬ليلا‭. ‬وفي‭ ‬خلال‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬حبيبته‭ ‬الشابة‭ ‬تستعيد‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬بعين‭ ‬الطفل،‭ ‬السيرة‭ ‬العائليّة‭ ‬والسياسيّة‭ ‬لعشرين‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬الحقبة‭ ‬الفاشية‭ ‬الإيطاليّة‮»‬‭ ‬هكذا‭ ‬كتب‭ ‬جان‭_‬نويل‭ ‬سكيفانو‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬ترجمته‭ ‬الفرنسّة‭ ‬لهذه‭ ‬الرواية‭.‬ أُمبَرْتو‭ ‬إيكوUmeberto‭ ‬Eco‭  (‬1932‭_‬2016‭) ‬فيلسوفّ‭ ‬وسيميائيّ‭ ‬وناقد‭ ‬وروائيّ‭ ‬إيطاليّ‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬مؤلفاته‭ ‬الروائية‭: ‬‮«‬اسم‭ ‬الوردة‮»‬،‭ ‬و«بندول‭ ‬فوكو‮»‬،‭ ‬و«جزيرة‭ ‬اليوم‭ ‬السابق‮»‬،‭ ‬و«باودولينو‮»‬،‭ ‬و«مقبرة‭ ‬براغ‮»‬،‭ ‬و«العدد‭ ‬صفر‮»‬‭. ‬ ومن‭ ‬مؤلفاته‭ ‬العلمّية‭ ‬الأكاديميّة‭: ‬‮«‬العمل‭ ‬المفتوح‮»‬‭ ‬و«البنية‭ ‬الغائبة‮»‬،‭ ‬و«القارئ‭ ‬في‭ ‬الحكاية‮»‬،‭ ‬و«السيميائيّة‭ ‬وفلسفة‭ ‬اللغة‮»‬،‭ ‬و«حدود‭ ‬التأويل‮»‬،‭ ‬و‮«‬البحث‭ ‬عن‭ ‬اللغة‭ ‬الكامنة‮»‬،‭ ‬و«ست‭ ‬رحلات‭ ‬في‭ ‬غابة‭ ‬السرد‮»‬،‭ ‬و«كانط‭ ‬وخلد‭ ‬الماء‮»‬،‭ ‬و«في‭ ‬الأدب‮»‬،‭ ‬و«أن‭ ‬تقول‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬تقريبًا‮»‬،‭ ‬و«من‭ ‬الشجرة‭ ‬إلى‭ ‬المتاهة‮»‬،‭ ‬و‮«‬كتابات‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الوسيط‮»‬،‭ ‬و«وتاريخ‭ ‬البقاع‭ ‬والأماكن‭ ‬الأسطورية‮»‬،‭ ‬والإشراف‭ ‬على‭ ‬الكتابين‭ ‬المصوّرين‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬الجمال‮»‬‭ ‬و«تاريخ‭ ‬القبح‮»‬‭.‬ إنَّ‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الشُّعلة‭ ‬الخفية‭ ‬للملكة‭ ‬لُوانا‮»‬‭ ‬هي‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬موازية‭ ‬لأمبرتو‭ ‬إيكو‭  ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬تصريحه‭ ‬بأنَّ‭ ‬السارد‭ ‬هو‭ ‬إيكو‭ ‬نفسه،‭  ‬وعلى‭ ‬الرغم‭  ‬من‭ ‬عدم‭ ‬تصريحه‭ ‬بميثاق‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬وفق‭ ‬مصطلح‭ ‬الناقد‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬فيليب‭ ‬لوجون‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كلِّ‭ ‬هذا‭ ‬التمويه‭ ‬والغموض‭ ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬هي‭ ‬سيرة‭ ‬إيكو‭ ‬الذاتية‭ ‬فعلاً‭! ‬ولقد‭ ‬تعامل‭ ‬معها‭ ‬بوصفها‭ ‬نصًا‭ ‬مفتوحًا‭ ‬قابلاً‭ ‬للتأويل‭! ‬واحتفى‭ ‬بها‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬أنساقها‭ ‬الرمزية،‭ ‬وفي‭ ‬سيمائيتها‭ ‬البصرية؛‭ ‬فهذه‭ ‬الرواية‭ ‬تضمُّ‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬المأخوذة‭ ‬من‭ ‬مكتبة‭ ‬أُمبرتو‭ ‬إيكو‭ ‬الشخصية‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬‮«‬احتراق‭ ‬المكتبة‭ ‬والاستحواذ‭ ‬على‭ ‬المعرفة‮»‬‭ ‬هي‭ ‬الثيمة‭ ‬الأساسيّة‭ ‬لرواية‭ ‬‮«‬اسم‭ ‬الوردة‮»‬‭ ‬فإنَّ‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الشُّعلة‭ ‬الخفية‭ ‬للملكة‭ ‬لُوانا‮»‬‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬انفجار‭ ‬الموسوعة‭ ‬وتبعاته‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬ما‭ ‬بعد‭  ‬الحداثة‭ ‬وخشية‭ ‬عدم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬استردادها‭ ‬بموسوعة‭ ‬مثلها،‭ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬مترجمة‭ ‬نسخة‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬العربيّة‭ ‬معاوية‭ ‬عبدالمجيد‭.‬ ‮«‬الذاكرة‭ ‬هي‭ ‬الروح‮»‬‭ ‬هكذا‭ ‬يقول‭ ‬إيكو،‭ ‬وفي‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬اسم‭ ‬الوردة‮»‬‭ ‬يقول‭ ‬السارد‭ ‬‮«‬فهم‭ ‬غوليالمو‭ ‬أنه‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نطفئ‭ ‬الحريق‭ ‬بيدينا،‭ ‬وقرّر‭ ‬أن‭ ‬ينقذ‭ ‬الكتب‭ ‬بالكتب‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬‮«‬الشُّعلة‭ ‬الخفية‭ ‬للملكة‭ ‬لُوانا‮»‬‭ ‬يفقد‭ ‬البطل‭/  ‬السارد‭ ‬ذاكرته‭ ‬ثم‭ ‬يستعيدها‭ ‬بدلالة‭ ‬ما،‭ ‬بالعقل‭ ‬والفكر‭ ‬والاستنتاج‭ ‬لإعادة‭ ‬تكوينها‭ ‬وإنشائها‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬تكون‭ ‬ذاكرة‭ ‬السارد‭ ‬ذاكرة‭ ‬موسوعيّة‭ ‬لانهائية‭ ‬تبدأ‭ ‬بالتاريخ‭ ‬وتنتقل‭ ‬إلى‭ ‬الجغرافيا،‭ ‬وعلم‭ ‬الأعصاب،‭ ‬والفلسفة،‭ ‬والدين،‭ ‬وأزياء‭ ‬الشعوب،‭ ‬والفاشية،‭ ‬والطفولة،‭ ‬والروايات‭ ‬الدفينة،‭ ‬والرسم،‭ ‬والسينما،‭ ‬وأرشيف‭ ‬الورق،‭ ‬والإغواء،‭ ‬والشهوة،‭ ‬والحبّ‭. ‬ويعود‭ ‬إيكو‭ ‬إلى‭ ‬عشرات‭ ‬الكتب‭ ‬من‭ ‬المجلات،‭ ‬وقصص‭ ‬الأطفال‭ ‬المصوّرة،‭ ‬والوثائق‭ ‬التاريخيّة‭ ‬في‭ ‬مكتبته‭ ‬العائدة‭ ‬إلى‭ ‬حقبة‭ ‬الفاشية‭ ‬الإيطالية‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬طفلاً‭ ‬صغيرًا‭. ‬ يقول‭ ‬إيكو‭: ‬‮«‬بدأتْ‭ ‬تتوضَّح‭ ‬بعض‭ ‬المعالم‭ ‬الغامضة‭ ‬من‭ ‬طفولتي‭ ‬الشيزوفرينية‭.‬كنتُ‭ ‬أقرأ‭ ‬الكتب‭ ‬المدرسية‭ ‬والقصص‭ ‬المرسومة،‭ ‬ومن‭ ‬الوارد‭ ‬أنني‭ ‬بقراءة‭ ‬القصص‭ ‬المرسومة‭ ‬كنتُ‭ ‬أؤسس‭ ‬وعيي‭ ‬المدني‭ ‬بمشقة‮»‬‭. ‬وصف‭ ‬بعض‭ ‬النقاد‭ ‬الغربيين‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬بأنَّها‭ ‬قريبة‭ ‬الشبه‭ ‬من‭ ‬رائعة‭ ‬الروائيّ‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬مارسيل‭ ‬بروست‭ ‬‮«‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬الزمن‭ ‬المفقود‮»‬،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬رواية‭ ‬بروست‭ ‬قد‭ ‬أرست‭ ‬تقاليد‭ ‬خاصة‭ ‬للسرد‭  ‬الروائيّ‭ ‬في‭ ‬احتفائها‭ ‬بالزمن،‭ ‬وفي‭ ‬بنيتها‭ ‬النصية‭ ‬الكاتدرائية‭  ‬في‭ ‬إحالاتها‭ ‬الموسوعية‭ ‬فإنَّ‭ ‬رواية‭ ‬إيكو‭ ‬تحتفي‭ ‬كذلك‭ ‬بانفجار‭ ‬الموسوعة‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬انفجار‭ ‬الموسوعات‭ ‬الحقيقيّة‭ ‬والافتراضية‭!  ‬رواية‭ ‬‮«‬الشُّعلة‭ ‬الخفية‭ ‬للملكة‭ ‬لُوانا‮»‬‭ ‬في‭ ‬ترجمتها‭ ‬العربيّة‭ ‬صادرة‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الكتاب‭ ‬الجديد‭ ‬المتحدة‭ ‬بترجمة‭ ‬رصينة‭ ‬للمترجم‭ ‬السوري‭ ‬معاوية‭ ‬عبدالمجيد‭.‬ أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬المساعد،‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

مشاركة :