في نص الكاتبة فضيلة الفاروق، الروائي والشعري، حكاية مع الإنسان والزمن. ولكل حكاية دربها الطويل الذي يقود الى أماكن ومتاهات في آن معاً. كأنها اختارت الدرب (الوعرة) للوصول، بدل أن تسلك المدار الهاديء الذي يعطي للهدوء هدوءاً. فرواياتها محصنة بقوة الفعل والقول، وأشعارها خارجة ،دائماً، الى المخيلة الواسعة التي لا تكتفي بمظلة أو مروحة واحدة. تريد أن تقول وتكتب وتبني وترسم وتمشي وتحلق بالكتابة، فإلى أين وصلت كلماتها وحروفها، وماذا تقول : ــ نبدأ من الحب . الحب في كتابك الحديث “منهكة بحبك”. لماذا وكيف وإلى متى منهكة؟ ـــــ كنت منذ البداية عاشقة و كل حرف أكتبه ينبض بالحب ، لكنّك تعرف مجتمعنا يرتعب من الحب، يبارك كل صيغ الإنتهاك الجسدي و العاطفي و يبلغ ذلك الإنتهاك اللغة الطافحة بالمشاعر، لهذا ألصقت بي تهم كثيرة لم تلمس نصي أبدا لكنّها أبعدت قارئي عن الحقيقة، و حولت جمهورا يرفل في الجهل إلى عدو يكن لي أقسى مشاعر الكراهية و هو لا يعرفني، كنت شابة و عنيدة و متمردة، و قلت في نفسي ليكن ما يريدون، نزفت في نصوصي حتى بلغت مرحلة الإحتضار، ثم توقفت. على مدى عدة سنوات أكتفي بكتابة نصوص تشبه الشعر، رسالة بيروت – إسماعيل فقيه نصوص تشبهني، و تصف قصّتي مع الجزائر، نصوص تبعد التعب عني، لا صراع فيها ، و لا عراك و لا حرب، نصوص هادئة تشبه ما بعد عمر الأربعين حين ينتبه المرء إلى أنه عاش نصف عمره و هو يقاتل، لم تعد تهمني تلك الحرب، حرب المشهد الثقافي العربي، الجوائز و الألقاب و المؤتمرات و الأسماء نفسها التي تحتكر مسار تلك الحركة، كتبت قصائد حب للجزائر التي أحب، و سلمتها لشاعر جزائري كانت لديه دار نشر، هو لزهاري لبتر، و طلبت منه أن ينشرها دون ضجيج، ثم بحثت عن أقرب شخص يفهم نصي و أعطيته النصوص ليصمم لي غلافا، فجاء الغلاف تحفة تماما كما أحب، من تصميم الجزائري حكيم ولد خالد، و صدر الكتاب بكثير من الحب بعد طول انتظار، و صبر و ترقب. هذا كل شيء. أما إلى متى منهكة؟ فإلى أن أستقر في الجزائر، و تهدأ العواصف التي ضربت قلبي و حياتي…ـ هل هي تجربة أولى لك بكتابة قصيدة الحب؟ ــــــ كتبت الكثير عن الحب، عن الشغف و العشق و الشبق و كل درجات الهيام بدءا بالحبيب إلى ملكوت الله الواسع، منذ عمر باكر، لكن القارئ العربي صعب، قلت لك أنه يحارب الحب، و هو حتى إن كان (عاملا خارجيا) في عملية إنتاج النص إلا أنه شئنا أو أبينا يتحكم في توجهات الكتابة، لهذا بقيت نصوصي العاشقة حبيسة أدراج مكتبي، و أتذكر أنك من أوائل من حاورني منذ عشرين سنة حين أصدرت مجموعتي الأولى ” لحظة لإختلاس الحب” و يومها أخبرتك أن أكثر شيء نسرقه في الحياة هو الحب، لأنه لا يزال ممنوعا. ” منهكة بحبك يا ابن دمي” إصداري الشعري الأول، لكنه قصة حب جزائري قديم لا يحضن و لا يخلي السبيل، و لا ينتهي. ــ نعرفك كاتبة رواية . هل استنفدت الرواية افكارك؟ ــــــ الرواية ؟ أكيد لا، إنه تعب من المجتمع و الحروب، و الظروف السيئة التي نعيشها، الرواية تحتاج لبناء، لتفكير، لوقت، لعزلة، لشروط كثيرة لتهيئة أجواء الكتابة، الشعر يأتي فجأة و أنت في الشارع، في المقهى، في الفراش على وشك النوم، في الصخب و في الهدوء، إنه يتملك صاحبه، أما الرواية فصنعة، تبدأ بالموهبة و تمارس فيما بعد كعمل يحتاج لدقة و تركيز. ــ لماذا الكتابة في حياتك اليوم . هل ما زالت كما كانت أو تغيرت؟ ـــــــ لا أحد يبقى كما هو يا صديقي، فالجاهل إن وضع في مدرسة و اهتم به أساتذة سيتحول إلى عالم ربما، و أنا كذلك، غبنة قرية صغيرة من جبال الأوراس، حملتني الحياة إلى قسنطينة أولا، ثم إلى العاصمة الجزائر، ثم إلى بيروت، و منها إلى عواصم عديدة، جرّني الأدب إلى دروبه الجميلة فتغيرت حياتي كاملة، و تغيرت أفكاري، و اتسعت مجالات الرؤية عندي، بسبب الأدب عرفت القاهرة، و دمشق، و الإمارات، و عمان، و لندن وأوكسفورد و كامبريدج و نيويورك و أورلاندو بعوالم ديزني لاند و الأميركي ستوديوز و أماكن لم تخطر على بالي يوما بلغت أقاصي العالم بسبب الأدب…تقفيت أثر الحكايات التي قرأت و اكتشفت منابعها الجميلة، إنه قدر و إلا لماذا وقعت في حب الكتابة و راهنت عليها رغم الظروف الصعبة التي عشتها في بداياتي بسببها؟ إنها قدري لا غير. ــ متى تكتب فضيلة ما الذي يدفعك ويحرضك على الكتابة؟ ـــــــ أكتب في كل الأوقات المناسبة، زمان كنت أحب وقت الفجر لأنه الهدوء الكامل، و منظر السماء من نافذتي يفتح شهيتي للكتابة، بعدها عاكستني الحياة، صعوبة تأقلمي مع الأمومة و الإستيقاظ ليلا عدة مرات، أدخلني في نوبات أرق، ثم مررت بمشاكل زوجية جعلتني أصاب اكتئاب حاد، فأصبحت ألجأ للكتابة في أي وقت، لا يهم الوقت، المهم حين تحضر الفكرة و يحضر الكلام. أما ما يحرضني للكتابة فلا أعرف، أصبحت نوعا من الإدمان، أحيانا أكتب رسائل لأصدقائي القريبين مني فأشعر بالإمتنان و المتعة، أحيانا أكتب مقالاتي، أو نصوصا صغيرة بوحية، لا أتوقف عن الكتابة حتى و إن لم أصدر جديدا. ــ هل تكفي الكتابة للتعبير عما يجيش في حياتك وايامك؟ ـــــــ السر الجميل في الكتابة أنها تبقينا دوما على عتبة عدم الإرتواء، نقول الأشياء التي تدور في خلدنا، و حين ننشر الكتاب تهجم علينا أشياء جديدة، لغتنا تتطور، رؤيتنا للأمور تنضج، فنحتاج لإضافات، فنكتب مجددا، يستحيل على الكاتب أن يتوقف أو يكتفي و يستحيل أن يشعر أن اللغة تعبر عما يختلج صدره، أحيانا نصغي للموسيقى و نبحث في فنون أخرى عما عجزت اللغة عن التعبير عنه، و لكن هذا أيضا لا يكفي.ـ ماذا يعني لك الرجل وهل يمكن أن تكون فضيلة شاعرة الرجل على غرار شاعر المرأة؟ ـــــــــ أوووووه اضحكتني يا صديقي…أنا أكتب لرجل واحد أحبه، و له الفضل لجعلي أقل شراسة و لطافة، رجل من طينتي، بتركيبة مخ مثلي، رجل لا تخيفه حريتي مهما اتسعت مساحة تحركاتي، أذهب بعيدا و هو في قلبي، يبتعد أو يقترب فهو هنا يشكل سعادتي و أفكاري و نبضي، الرجل يا صديقي الشاعر هو الكائن الذي برمجت سلفا لأحبه و أعيش معه، تخيل مع كل هذه الحروب و التعاسات التي يتسبب بها الرجل بقلة حكمته و أطماعه لا نزال نحبه نحن النساء و نتزوجه و ننجب منه …أي قدرة خرافية هذه التي تسكن المرأة لتسامح الرجل في حماقاته و تعاود الوقوع في حبه؟ إنه السر الذي لم نبلغ إليه لنفهمه. ــ هل من مشاريع كتابية جديدة؟ ـــــــ لا أحب الحديث عن مشاريعي حتى أنهيها. ــ ماذا يعني لك الوطن خصوصا انك مقيمة في وطن لبنان وبعيدة عن وطنك الأول الجزائر؟ ــــــــ زمان قالت لي سيدة عجوز ” بلادي وين أولادي” و قد بقيت فترة زمنية طويلة و أنا أشعر باغتراب كبير و ندم لأني تركت الجزائر، إلى أن كبر إبني و جمع أمام عيني هويتان، و أنا في خضم انشغالي ببناء حياتي في لبنان نبتت لي جذور، اليوم أشعر أني منتمية إلى الضيعة التي أعيش فيها، أحب هواءها و ترابها و أناسها و أتفاعل معهم في الفرح و الحزن. أما الجزائر فهي امتداد تاريخي لا نهاية له، و أيضا لي ارتباط عاطفي قوي بآريس بلدتي الصغيرة أكثر من أي مكان آخر في الجزائر. و لي علاقة طيبة مع سفارتي، و سعيدة لأن إبني يفتخر بنصفه الجزائري، يعشق كرة القدم و يشجع الفريق الوطني الجزائري، و يعشق لهجتنا سواء العربية أو الشاوية الأمازيغية، و يحب طبيعة الجزائر الخلابة… ثمة نضج في تعاملي اليوم مع بلدين و هويتين، و في امتصاصي للثقافات الجميلة التي احتككت بها هنا و هناك، أعتقد أني محظوظة جدا لأن الله رسم لي هذه الأقدار كلها.ــ ماذا حققت الكاتبة فضيلة بالكتابة وماذا تريد أن تحقق؟ ــــــــ أعتقد أني أجبتك خلال الحوار، فمكاسب الأدب كثيرة رغم الخسارات التي نكابدها حين نختار طريق الأدب. لقد منحي الأدب عالما جميلا طالما حلمت به، وضعني في مكانة مرموقة و محترمة بين النّاس، طرت على أجنحته و تعرفت على بلدان كثيرة و ثقافات كثيرة، و غير ذلك فإن القادم سيكون أجمل بكثير، لأني اليوم بلغت موسم قطف ثمار الأدب …إنها مرحلة هادئة، و جميلة، فقط سأعمل على أن تبقى بهذه المتانة إلى أن أموت
مشاركة :