يعد مشروع "مبادرة البحار الثلاثة" أهم مشروع أوروبي من الناحية الجيوسياسية خلال الأعوام الأخيرة. فهذا المشروع المشترك يضم دول شرق أوروبا الـ12 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ويستهدف تحديث خطوط المواصلات التقليدية والرقمية بين بحار البلطيق والأدرياتيكي والأسود. فهذا المشروع مهم للغاية في ذاته، لكنه في الوقت نفسه يمكن أن يكون أفضل رد أوروبي على تمدد النفوذ الروسي والصيني في شرق القارة الأوروبية بحسب الكاتب والمحلل الأمريكي من أصل ألماني أندرياس كلوته. وأضاف كلوته في تقرير نشرته وكالة "بلومبيرج" للأنباء، أن هذه المبادرة انطلقت في البداية على يد كرواتيا وبولندا 2015 ثم انضمت إليها الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في شرق أوروبا، التي ظلت طوال أعوام الحرب الباردة تعيش خلف الستار الحديدي إلى جانب النمسا. وعلى الرغم من التحسن الاقتصادي، فإن دول شرق أوروبا ما زالت متخلفة على صعيد البنية التحتية، مقارنة بباقي دول الاتحاد الأوروبي. فالسفر بالسيارة أو بالقطار في دول الاتحاد الأوروبي بشرق أوروبا يستغرق نحو مثلي أو أربعة أمثال متوسط الوقت اللازم لقطع المسافة نفسها في باقي دول الاتحاد. ما تفتقده دول شرق أوروبا بشكل خاص هو الطرق السريعة الجديدة وخطوط قطارات نقل البضائع وخطوط أنابيب الغاز، التي تمتد من الشمال والجنوب. وهذا من موروث الحرب الباردة، فالهيمنة السوفياتية في تلك الأعوام كانت تحرص على ضمان سهولة انتقال الغاز والدبابات والقوات الروسية من الشرق إلى الغرب، لكنها لم تهتم بوسائل المواصلات الأخرى بين الدول، التي تحتلها. وتأتي مبادرة البحار الثلاثة لكي تغير هذا الوضع، فالمبادرة تتضمن على سبيل المثال ميناء في كرواتيا يمكنه استقبال السفن، التي تحمل الغاز الطبيعي المسال القادمة من الولايات المتحدة مثلا، ليتم نقل هذا الغاز عبر خطوط أنابيب نحو الشمال، كما تمتلك بولندا محطة لاستقبال الغاز الطبيعي المسال. وبحسب التحليل تمثل روسيا "البعبع" الواضح في خلفية هذه المنطقة، ولطالما استخدمت دورها كمورد للطاقة لتأكيد سلطتها على البلدان، التي يمر الغاز الروسي عبرها. وللأسف، فروسيا تحاصر شرق أوروبا بالكامل بشبكة خطوط أنابيب جديدة لنقل الغاز عبر البحر الأسود إلى الجنوب وعبر بحر البلطيق إلى الشمال. ويسمى الخط الأخير نورد ستريم 2 (تيار الشمال2) ويربط مباشرة بين روسيا وألمانيا وقد أيقظ مخاوف قديمة بين البولنديين والبلطيقيين من احتمال الالتفاف عليهم أو ابتزازهم أو قطعهم، ويثير هذا الخط مخاوف البولنديين ودول بحر البلطيق من احتمال الالتفاف عليها وابتزازهم أو قطع إمدادات الغاز الروسي عنهم. كما تتضمن مبادرة البحار الثلاثة مشاريع للطرق السريعة والسكك الحديدية والموانئ النهرية والجسور وغيرها. كما يتضمن مد خطوط الألياف الضوئية للاتصالات فائقة السرعة، فضلا عن تجهيزات شبكات الجيل الخامس للاتصالات وهنا يظهر الخطر الصيني. فالصين، وكجزء من سعيها للتحول إلى قوة عظمى، تعتمد منذ أعوام على تمويل مشاريع البنية التحتية العملاقة لتعزيز نفوذها في شرق أوروبا. وتعد مبادرة الحزام والطريق الصينية أبرز تلك الجهود، حيث تضم مشاريع موانئ وسكك حديدية وطرق وشبكات اتصالات للربط بين دول إفريقيا وشرق أوروبا وآسيا. كما أطلقت الصين مبادرة أخرى باسم "17 زائد 1". والصين هي "1" و"17" هي دول شرق أوروبا ومنها عشر دول تشارك حاليا في مبادرة البحار الثلاثة، بحسب ما نقلته "الألمانية". ويقول كلوته، رئيس التحرير السابق لصحيفة هاندلسبلات جلوبال الألمانية والكاتب في مجلة "إيكونوميست" على مدى 20 عاما، إن هذه المبادرات مجرد محاولات لتعزيز النفوذ الصيني حول العالم. وفي بعض الأحيان تمول الصين مشروع ميناء بشروط مجحفة لكي تسقط الدولة في فخ الديون أو تمول مشروعا آخر بشروط سخية في دولة أخرى بهدف الحصول على نفوذ سياسي عليها. وتعد المجر نموذجا واضحا لهذا السيناريو، فهي تشترك مع الصين في مشروع ضخم لإقامة خط سكة حديد من بودابست إلى بلجراد ثم إلى ميناء بريوس اليوناني، الذي تمتلك أغلب أسهمه شركة صينية تابعة للدولة. ومنذ ذلك الوقت تعارض المجر أي محاولة من جانب الاتحاد الأوروبي لانتقادات الانتهاكات الصينية لحقوق الإنسان. وخلال الشهر الحالي على سبيل المثال استخدمت بودابست حق النقض (الفيتو) ضد بيان للاتحاد الأوروبي ينتقد الممارسات الصينية ضد الديمقراطية في هونج كونج. في الوقت نفسه، فإن الاتحاد الأوروبي يواجه شكوكا بشأن مبادرة البحار الثلاثة. والخلافات السياسية بين شرق أوروبا ودول غربها الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يتسع خلال الأعوام الأخيرة، مع ابتعاد المجر وبولندا عن الالتزام بسيادة القانون والانحراف نحو الشعبوية. وقد بدت هذه المبادرة في البداية كمحاولة شرق أوروبية للتكتل ضد بروكسل. ولكن في ختام تقريره يرى أندرياس كلوته الأمر غير ذلك، ويقول: إن هذه المبادرة محاولة لجعل شرق أوروبا منطقة مزدهرة اقتصاديا ومستقلة عما أسماه البلطجة الروسية والتدخل الصيني، وهو ما فهمته الولايات المتحدة قبل أن يدركه الاتحاد الأوروبي.
مشاركة :