الحياة سرٌّ يتوارى بين السماء والأرض، فيلبس ثوب الشتاء والصيف ليجول في أنحاء الطبيعة كما يجول في أجزاء البدن بين اليقظة والنوم والصحة والمرض، دون أن يسفر عن وجهه فإذا نظرت في الصيف من جانب الليل الساكن وسواده الحالك، رأيت الشمس هنالك في السماء تبزغ كالغادة الحسناء متبخترة في أرجاء هذا الفضاء الواسع، ناشرة شعرها الذهبي على قمم الجبال وأغوار البحار، لتنير هذا الكون العجيب وتخرجه من برودته وسكونه وظلمته. وإذا وقفت في الشتاء جانب الشاطئ اللجي الصاخب، رأيت هنا على الأرض هذه القطرات من الماء في هذه البحار الواسعة تلامسها أيدي الوجود بنسماتها ورياحها، فتأخذها باللين وتجذبها بالشدة، فترى صفحات الماء باسمة وترى الأمواج مزمجرة، وقطرات الماء بين ذلك ترفع وتخفض وترتطم بالشواطئ الصخرية كما تنساب على الشواطئ الرملية، فتمتد على السفوح هاشّة باشّة يأخذها الجزر مهزومة حزينة. ولا يقف سر الحياة بين هذه الشمس في السماء وبين هذه القطرات من الماء في الأرض، لئلا يعرف مكمنه، فيحدق به، ويستباح حماه، ويهتك حجابه، لذلك ترى الحياة خوفاً على سرها تصل ما بين السماء والأرض، ما بين الشمس والماء، كما نرى صلة الأحياء بالأحياء، قوياً مسخراً وضعيفاً مسخراً، فترى الشمس تصب على الماء بكبرياء أشعتها الحارة، لتتبخر فتجذب هذه القطرات من الماء إليها وتعبث بها كما تشاء، فتؤلف منها سحاباً رقيقاً أو كثيفاً تلونه كما تريد وترسله أنى اتجهت الأهواء.. وحيث أن الحياة من الصيف بمنزلة الحياة من الشتاء، فإن الشتاء ينقم على الصيف جبروت شمسه فيجند غيومه المتلبدة السوداء لتحارب الشمس وتحجب ضياءها وتخيفها ببريق سيوفها وزمجرة رعودها. وها هو ذا قوس قزح بألوانه السبعة الجميلة، قد ظهر على هامة هذه الطبيعة الزرقاء الفاتنة معلناً أن النصر للمظلوم وإن كان ضعيفاً، والخذل للظالم وإن كان شمساً ساطعة. أما تلك الأمطار التي تساقطت من هول الاحتدام وشدة المعركة، فهي ضحايا بريئة تذهب كالشهداء الأبرار إلى الجنان والحقول بأرواحها تذهب لتنبت أعشاب الربيع ووروده بألوان مزركشة بديعة وروائح عطرية زكية، ثم لتجري في السواقي بين المروج والحدائق بصفاء وعذوبة، لتعود من حيث خرجت إلى أعماق البحار، بسكون وهدوء فتنتظم دورة الحياة ويظل مع هذا سرها سراً محجباً... هكذا الإنسان، فإنه بعد أن يخرج من ظلام الرحم وسكونه ورطوبته، تجده كقطرة ماء في بحر هذا الوجود، تتقاذفه الأقدار وتلاطمه وترفعه وتنزله وترسله مع المد إلى سواحل الأمل البراق، وتأخذه مع الجزر إلى مأزق الصخور والأعماق حيث يوشك أن يلقى الهلاك، وهكذا تأخذه الأيام بحوادثها كالشمس التي تبخر المياه، أما هو فروحه المتألمة تصعد إلى السماء لتؤلف غيوماً من الهموم والأحزان المتكاثفة التي تضطره أن يزمجر ويرعد ويشمر الساعد ويناضل الأيام بجد وإقدام، إلى أن يظفر بها ويضع إكليل الغار على رأسه بوجه صبوح كقوس قزح في قبة السماء المشرقة الضياء. أما مادة جسمه، فهي كالأمطار تتساقط من قوامه القوي عضواً فعضواً إلى التراب، لتغذي نباتات الحقول ودواب الأرض، حتى تعود من حيث أتت إلى بحر الفناء، إلى العدم الغامض. وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا الكهف: 45.
مشاركة :