رحلت البهجة قبل رحيل سمير غانم هيثم الزبيدي صرنا نحن مشهدا هزليا يستحق الضحك عليه. لعل هذا آخر اسكتش مرّ بخاطر سمير غانم قبل رحيله. أطفئت أضواء المسرح وساد الظلام. كلمة السر.. خفة الدم برحيل سمير غانم، تكون فرقة “ثلاثي أضواء المسرح” قد طوت آخر صفحة من تاريخها الذي يمتد لستين عاما. الثلاثي أصبح ثنائيا قبل خمسين عاما عندما رحل الضيف أحمد وهو في عزّ شبابه، والثنائي أصبح فردا يوم مرض ثم توفي جورج سيدهم. الفرقة في الستينات، العقد الذي شهد أفضل ما قدمه نجومها، كانت علامة فارقة في جنس خاص لم يجد حظه في المشهد الفني العربي: الاسكتشات. تسلّل هذا الجنس الفني بحياء إلى عالمنا. كان قد انتشر في أوروبا والولايات المتحدة بقوة لأنه يجمع التمثيل والغناء في مشهد سريع يمكن أن يدمج في فيلم سينمائي (والسينما كانت علامة العصر الفارقة) أو على خشبة مسرح ضمن مسرحية أو في استعراض أو حتى في فاصل بين مشهدين غنائيين أو مسرحيين. أهم ما يميّز فن الاسكتشات هو كثافة التقديم في برهة زمنية قصيرة والانتقال بين الغناء إلى الحديث ثم الرقص أو خليط بينها. السرّ في الاسكتش هو خفّة الدم. كان لدى الثلاثي سمير غانم وجورج سيدهم والضيف أحمد الكثير من خفّة الدم. تلقفوا هذا الفن وقدموه ضمن أفلام وعروض تلفزيونية في أول عصر انتشار التلفزيون وعلى المسرح. لست خبيرا في الأمر ولا مؤرخا فنيا، لكن تلك المقاطع في الأفلام والتلفزيون والمسرح التي نقلتها التلفزيونات كانت تحفر عميقا في ذاكرة الناس وتعيش لسنوات، أطول كثيرا من غيرها أو من المتوقع من عمل فني هزلي وخفيف ليس المقصود منه أن يترك أثرا ملحوظا لدى المشاهد. لكن لسبب أو آخر، هذا الأثر بقي. في بعض من تلك الاسكتشات كنت تلمس الاقتباس من مقطوعات موسيقية وأغنيات عالمية. في اسكتش “كيوبيد” الطريف تسمع صدى أغنية شهيرة لفريق البيتلز. لكن سرعان ما يتحول الإيقاع والغناء إلى شيء مصري شعبي قريب من النفس. قبل ظاهرة “تيك توك” بعقود كان اسكتش “ثلاثي أضواء المسرح” الموسوم “تيك توك ميمي لولا سوسو” قد ترك أثره عند الناس. اسكتش “سو سوسولالاري” عن تلفزيون تتغير فيه القنوات من دول مختلفة، لكن نفس الأغنية تعود ولا تريد المغادرة (لم يتغير الأمر في فضائياتنا التي لا تتوقف عن إعادة الأغاني والمسلسلات). العراقيون حرّفوا “سولالاري” إلى “سولالاي” وصارت مفردة في اللهجة العراقية تعني التكرار الممل. عاصرت بقايا هذا الجنس الفني في بريطانيا في أواخر الثمانينات، وكانت التلفزيونات تقدم الاسكتشات الساخرة من أرشيفها في الستينات والسبعينات والجديد ابن وقته. أستطيع القول (دون أن أدعي الاحتراف النقدي) أن اسكتشات “ثلاثي أضواء المسرح” لا تقل عما كان يقدم في الغرب، بل ربما تكون أفضل بالقياس لفرق الإمكانيات. عربيا، سبقت الفرقة زمانها، ولا أعتقد أن فرقة أخرى ملأت فراغها في مصر أو أية دولة عربية أخرى. فن الاسكتشات اندثر مثلما اندثرت الكثير من الأجناس الفنية لصالح الإبهار والاستعراضية البصرية. ما يميز أعمال "ثلاثي أضواء المسرح" في مرحلتها وفي ما استمر في تقديمه سمير غانم وجورج سيدهم من مسرحيات بعد رحيل الضيف أحمد عام 1970، هو حضور البهجة. بهجة تآكلت في مصر ومحيطها الثقافي العربي وحل بدلا عنها العبوس: عبوس قومي أولا ثم عبوس إسلامي. اختفى الفرح وحل بدلا عنه خطاب متشنّج ومشهد منكمش. صرنا نحن مشهدا هزليا يستحق الضحك عليه. لعل هذا آخر اسكتش مرّ بخاطر سمير غانم قبل رحيله. أطفئت أضواء المسرح وساد الظلام. كاتب من العراق مقيم في لندن
مشاركة :