تيار الحياة جارف هادر، وخاصة في العقود الأخيرة، حيث تتسارع التغيرات والتطورات بشكل مذهل، يصعب تصديقه أحيانًا، كما يستحيل توقعه في الأساس، ولعل «جائحة كورونا» وما فرضته من إجراءات وإغلاقات وتغيرات أكبر دليل على ذلك، بشكل يفوق الخيال، ولم يكن في الحسبان يومًا، ولذا على الإنسان الذي يسعى للحفاظ على توازنه وفاعليته وحضوره أن يتفاعل مع هذه الحياة وصخبها، وأن لا يعتزلها؛ لئلا يجرفه تيارها إلى الهاوية ومطاوي النسيان، أو في مكبات الخردة في أحسن الأحوال. كما يموت الناس والأشجار والحيوانات، وتموت المدن والأنهار والبحيرات وحتى النجوم، تموت المهن والوظائف أيضًا، ومن المهن التي ماتت وشاهدنا موتها ودفنها «الطباعة على الآلة الكاتبة»، ومات معها كل ما يتعلق بها من صيانتها وتعليمها وصناعتها وتسويقها، ومن كان يعتمد عليها، إن لم يسارع لإيجاد بدائل، ضاع وخسر. رواية «معلم الآلة الكاتبة ولونه الواحد» للكاتب المصري منتصر عبدالموجود الصادرة عن دار الآن ناشرون وموزعون في عمّان، 2021 في 246 صفحة، تتناول قصة معلم طباعة على الآلة الكاتبة، يعيش وحيدًا، يرى نفسه مهمًا جدًا؛ كونه يساهم في تعليم موظفين وخاصة أمناء السر، وزاد من انتفاخه أنه «أشهر معلم آلة كاتبة في المدينة»، كما أن عمله في التدريس الخصوصي، وصيانة آلات الطباعة مطلوبًا، مما وفر له دخلًا ماليًا يفيض عن حاجته. كانت الحياة تسير من تحت أرجل هذا المعلم – مجهول الاسم - وهو لا يدري، دخل الحاسوب مجال العمل بقوة، يزحزح الآلة الكاتبة عن مكانتها تدريجيًا، وهو لا يدري، ودخلت شبكة الإنترنت، وصنعت عالمها الخاص الواسع، وهو لا يدري، ودخلت الفضائيات، واحتلت مكانتها الأثيرة والمؤثرة، وهو لا يدري، ودخلت أجهزة الخلوي وحملتها كل يد، وهو لا يدري، ولم يشعر بكل هذه التغيرات الكبيرة إلا يوم استلم قرار تحويله إلى أمين عهدة المدرسة، بعد إلغاء مادة الطباعة لصالح الحاسوب، فكأنما تلقى صفعة مدوية على وجهه، وتهاوت مكانته إلى الحضيض، وزادت صدمته، عندما رأى آلات الطباعة التي كانت تشكل مملكته وسلاح سطوته، كومة خردة في غرفة مغلقة داخل مخزن العهدة. حياة هذا المعلم العملية والشخصية، وعلاقاته بالآخرين، كانت رتيبة مملة لا تتغير بتغير الأيام والأعوام، لكأنها نسخة واحدة مكرورة، وكان يستمتع بأصوات ضربات حروف الآلة الكاتبة في أثناء تدريب الطلبة، ويميز كل حرف فيها، وتطربه رتابتها، مع أن هذه الضربات متغيرة مختلفة، ولكل حرف نغمته، وكان الأولى أن يتأثر باختلافها لا رتابتها، ولكنه الركود الذي يحط على الروح، والوهم الذي يرسخ لدى البعض، فيظن أنه الأكثر فهمًا وإدراكًا ووعيًا، وهو في الحقيقة مجرد مخدوع، يعيش على هامش الحياة، ولم يخض لجتها يومًا. كان هذا المعلم مهووسًا بالآلة الكاتبة، يتعامل معها كأنها من روح ودم، اشترى آلته الوحيدة من معرض في ألمانيا بعد تقص وتفحص وأسئلة وتجوال في أركان المعرض، وعاد بها، ووضعها زينة على طاولة في صالة شقته، فكانت آخر من تودعه وأول من يستقبله، لم يستعملها يومًا، ولما همَّ أن يستعملها لأول مرة بعد عشرين سنة، وجدها تثقب الورق ولا تطبع شيئًا، ولا عجب، فحتى الآلة أبت إلا أن تشمت به وتعلمه درسًا قاسيًا، ولم يستطع أن يكتب للشركة المصنعة، فإن يفعل بعد هذه المدة، أمر مثير للسخرية والرثاء، ومن يأبه بآلة كاتبة انقرضت وانتهت أيامها؟! علاقة هذا المعلم بطلبته كانت فوقية، مقتصرة على الآلة الكاتبة، لم يستمع لهم ولمشاكلهم، ولم يشاركهم حياتهم، وابتعد عن زملائه، وتجنب الحديث معهم، وعلاقته مع الإدارة كانت علاقة عمل، ومع جيرانه مقطوعة، ولم يظهر لهم وجود إلا يوم انبعثت رائحة نتنة ودود من شقته. صديقه الوحيد كان ياسر الذي يصلح الساعات، فكان يزوره بين الحين والآخر، وهي العلاقة الوحيدة التي تشعر القارئ أن المعلم إنسان ليس معتوهًا أو مجنونًا، بالإضافة إلى علاقته المتقطعة مع زميلته السابقة ليديا وأسرتها. أما علاقته بطالبته القديمة الملقبة بالعذراء، فقد كانت غريبة ورتيبة في آن، فكان يزورها بانتظام في منتصف الليل، ويقومان معًا بطقوس تعبدية مسيحية - وهو المسلم - ثم يخرج صباحًا، يكمل يومه كما تعود بتراتيبية رتيبة. كان هذا المعلم مدمنًا على مراقبة الطلبة من نافذة أحد حمامات المدرسة، وفي دوامه المسائي بطباعة الكتب الإدارية، كان يفتش ويبحث ويتقصى في كل مكان في المدرسة، فعالمه خاص به لا يشاركه به أحد، بل كان لا يقبل أن يطبع حرفًا بوجود أحد، لكأنما حياته وعمله سر يخشى أن يكشف أو يفضح. تعرض المعلم لهزات ووخزات، لكنها لم تغير فيه شيئًا جذريًا، فقد أهداه صديقه ياسر جهاز استقبال الفضائيات، ومن ثم جهاز خلوي، لكنه لم يحاول أن يستعملهما على الإطلاق، وبقي بعيدًا عن هذه التطورات على الرغم أنها بين يديه، تحاصر سمعه وبصره، وتلقى انتقادات من بعض طلبته وخاصة رضا التي تعمل مع ياسر، لكنه تعاطف معها، ولم تحدث أي تغيير في مسارة. تغيرات طفيفة حدثت مثل قراءة الروايات في المخزن، والتغيب المتعمد عن العمل، ولكن التغير الأبرز كان قبوله دعوة للسهر في فيلا على الساحل الشمالي في رأس السنة، وهناك التقى بسيدة عراقية تعيش في أوروبا، حضرت للسهرة لأنها صديقة لصاحبة الفيلا تعرفت إليها عن طريق الفيسبوك، في إشارة لافتة إلى قوة تأثير مواقع التواصل في الربط بين سيدتين من قارتين، وهو القابع في ذاته يكاد لا يعرف أحدًا إلا ما فُرض عليه. عندما قتلت العذراء على يد فرج أحد طلبته، كان هو المتهم الأول، بسبب علاقته المشبوهة بها حسب شهادة حارس البناية، ولم يستطع إثبات مكان وجوده، فزج به في السجن بانتظار المحاكمة، ولكن قيام ثورة يناير 2011، أدت إلى تفريغ السجون بالقوة، فخرج وهو لا يدري عن الثورة شيئًا، فقد بدأت وقويت شوكتها بغيابه، وقام بها شباب كان يسخر منهم ويستعلي عليهم، وجرفته الأحداث رغمًا عنه للمشاركة والهتاف في المسيرات، في تلميح ذي معنى للتغيير القسري على الصعيد الشخصي والوطني. حفلت الرواية بالمونولوجات التي شغلت ذهن المعلم، بما فيها كوابيسه التي أرهقته، وتنوعت بتنوع مراحل حياته، كما أن علاقته الملتبسة مع العذراء، أضفت بعدًا عميقًا على الرواية، وأثارت العديد من الأسئلة، وخاصة نهايتها المأساوية، وتفجير الكنيسة التي كانت وجهتها قبل أن تقتل، كما لعب حكاية زكي بك الأرناؤوطي، وتواصله غير المباشر مع المعلم دورًا في إثراء الرواية، وإثارتها لقضايا إشكالية ذات أبعاد اجتماعية وإنسانية ودينية. يؤخذ على الرواية رتابتها وخلوها من عوامل الإثارة والتشويق، وربما قصد الكاتب ذلك؛ ليصور بالكلمات رتابة حياة المعلم وما فيها من ملل وركود، ولكن هذا لا يبرر عقاب القارئ في جميع فصولها، وكان بالإمكان التحايل على ذلك ببث روح الإثارة في القصص الجانبية وعلاقات المعلم مع الآخرين. كما أن قصر مقاطع الرواية التي بلغت سبعة وسبعين أرهقت القارئ، ولا أظنها أدت وظيفتها في كسر الرتابة وتحريك الأحداث. وبعد؛؛؛ فإن رواية «معلم الآلة الكاتبة ولونه الواحد»، يمكن أن تقرأ على أنها رواية رمزية؛ إذ لا فرق بين رتابة الأوطان ورتابة الإنسان، فمن لا يواكب التغيير والتطور الكوني تجرفه الأحداث، ويتغير رغمًا عن أنفه، وبشروط قوى التغيير الفاعلة لا شروطه هو، وهذا يؤدي بالضرورة إلى خسارات كثيرة، ولكنها ضرورية للسير من جديد بخطوات واثقة ومتوازنة، والعاقل؛ شخصًا أو دولة، من عارك الحياة وتفاعل معها بمرونة ووعي ليختار ما يناسبه، ويحفر طريقه وسط لجتها بقوة وبصيرة. وتؤكد الرواية أن الحياة التي لا تقبل الرتابة والعزلة، لا ترتضي اللون الواحد بكافة أشكاله؛ فكرًا ورأياً وعقلية وطريقًا وعملًا و...، فالتنوع والاختلاف هو ما يعطي الحياة قيمتها وجمالها وبهجتها، بل إن اللون الواحد هو من أهم أسباب الثورات، وما يرافقها من فوضى وقتل وتخريب وتدمير، وهو في حقيقته إقصاء وتطرف وإفساد للحياة. يذكر أن الكاتب منتصر عبدالموجود صدرت له قبل هذه الرواية ثلاث مجموعات شعرية: «حروب وهزائم، 2004»، و«الحنين.. سلة المفقودات، 2010»، و«ثمة أشياء لن يجربها، 2012». وكتاب نصوص: «في مديح البلدات الصغيرة، 2018».
مشاركة :