تونس- خلقت الأزمة الشاملة في أبعادها الاقتصادية والسياسية والصحيّة في تونس توتّرا شعبيا متناميا كسر ما تبقى من منسوب الثقة بين المواطن والفاعلين السياسيين، وعمّق التباعد بينهما، ما يعكس حسب مراقبين تشاؤما شعبيا واضحا أكّدته استطلاعات للرأي كشفت عن تصدّر رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي قائمة الانعدام الكلي للثّقة، مقابل تصدّر الرئيس قيس سعيّد لنوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية القادمة. وكشف استطلاع للرأي يخص شهر مايو الجاري أنجزته مؤسسة “سيغما كونساي” الخاصة ونشرته جريدة “المغرب” المحلية الخميس عن ارتفاع نسبة التشاؤم لدى التونسيين لتبلغ 90 في المئة، علاوة على توجسهم من المستقبل والانعكاسات السلبية للأزمة الراهنة. ويرى 90 في المئة من التونسيين أن البلاد تسير في الطريق الخطأ، فيما يعتبر 8،8 في المئة أن تونس تسير في الطريق الصحيح. وتصدّر قيس سعيّد المرتبة الأولى من حيث نوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية القادمة بنسبة 43.3 في المئة، تليه عبير موسي بـ14.5 في المئة ونبيل القروي بـ11 في المئة ثم الصافي سعيد بـ10.8 في المئة ويليه المنصف المرزوقي بـ2.7 في المئة. بينما تصدّر رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي قائمة الانعدام الكلي للثقة بـ77 في المئة. وأظهرت نتائج الاستطلاع أن القيادي في حركة النهضة علي العريض يحتل المرتبة الثانية بـ65 في المئة، يليه رئيس كتلة ائتلاف الكرامة سيف الدين مخلوف بـ64 في المئة، ثم رئيس حركة تحيا تونس يوسف الشاهد بـ61 في المئة، وحلّ في المرتبة الخامسة رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي بـ58 في المئة. وتم إجراء البارومتر من 17 إلى 19 مايو 2021 على عينة تتكون من 806 تونسيين أعمارهم لا تقلّ عن 18 سنة. وأفاد النائب المستقل في البرلمان حاتم المليكي بأن “النسبة الكبيرة تعكس إجماعا وطنيا على أن السنوات العشر من التحول السياسي لم تعط نتيجة، حيث لم تتحسّن أوضاع المواطنين، والأزمة بيّنت ضعف النظام السياسي وأقصت المواطنين من اعتباراتها”، متابعا “يجب تغيير المسار في حدّ ذاته، واتضح أنه حتى نسبة الثقة الأعلى في الرئيس سعيّد لم تتجاوز 50 في المئة”. وأضاف، في تصريح لـ”العرب”، “هناك جزء يتعلق بسلوك الطبقة السياسية التي أصبحت تحكمها التسريبات والصراعات والتوتّر، وهذا مناخ لا يجعل المواطن يثق في السلطة، وهناك مسار سلبي جدا جعل البلاد في طريق مجهول”. وحسب رأي المليكي “لم يدرك التونسيون بعد معنى الانتقال الديمقراطي، بل اقتصر السياسيون على تحسين أوضاعهم على حساب المواطنين، وهذا يتطلب التفكير بشكل جدّي في التغيير ومراجعة شاملة للنظام والسلوك السياسي، ويستدعي تدخّل جميع الأطراف”. وتابع “نحتاج إلى مشاركة أطراف خارج السلطة على غرار المنظمات الوطنية لإصلاح المسار، فضلا عن إحياء مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل والشروع في عملية تقييم حقيقية للمشاكل المتفاقمة بعد 2011”. شهدت تونس موجات متتالية من الاحتجاجات والاعتصامات ضدّ قرارات الحكومة وطريقتها في إدارة الأزمات واستطرد “لا أعتقد أن الطبقة السياسية الحالية ستجد حلولا للأزمة لأنها أصل المشكلة والحلول أصبحت تتجاوزها”. ودفع الصراع السياسي المحتدم في أعلى هرم السلطة بين الرئيس سعيّد ورئيس الحكومة هشام المشيشي ومن ورائه الغنوشي إلى تعميق أزمة الثقة مع المواطنين، وبات التونسيون لا يثقون في رؤوس السلطة ولا يعتقدون أنه ستتم معالجة الأوضاع المتردية وتحسين مستويات عيشهم. ويرى مراقبون أن مكونات مشهد ما بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة سقطت في مربّع التصادم والعنف السياسي، وتنكّرت لوعودها تجاه الناخبين، وانشغلت بصراعات جانبية أهملت القضايا الجوهرية وهموم الناس. واعتبر رمضان بن عمر، المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في تصريح لـ”العرب” أن “هذه النتائج غير مُفاجئة”، وفسّر انعدام ثقة المواطن في الطبقة الحاكمة بـ”أن المشهد السياسي منذ 2019 انخرط في صراعات هامشية وأهمل انتظارات المواطن”. وأضاف “هناك صراعات على التموقع بين الأحزاب والنواب، وهي من السلوكات التي تضعف ثقة المواطن في المسؤولين السياسيين، علاوة على ضعف الأداء الإعلامي والحضور السياسي الباهت للقيادات، وبعض الفضائح السياسية على غرار تقرير دائرة المحاسبات، كلّ ذلك عمّق أزمة عدم الثقة”. رمضان بن عمر: السياسيون انخرطوا في الصراعات وأهملوا انتظارات المواطن وتابع بن عمر “تبدو الطبقة السياسية خلال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية كأنها تخلّت عن المواطنين، والدولة انحازت إلى أطراف سياسية دون سواها في علاقة بخرق القرارات والإجراءات السياسية، مقابل تطبيق القانون على المواطن، واستعملت العصا الغليظة المتجسّدة في الأمن والقضاء ضدّ المواطنين، وهذا من الطبيعي أن يفرز تشاؤما وغيابا للثقة”. وحسب رأي المتحدث باسم المنتدى “لا يوجد مشهد مستقرّ، بل أصبح المشهد السياسي متحولا ويفتقد للرؤية وليست له حلول للإنقاذ، وباتت المؤسسات في طريقها إلى التدهور، فضلا عن تكريس سياسة الإفلات من العقاب وتطبيق القانون على فئات شعبية دون غيرها”. وأشار إلى أن “كل تلك الممارسات السياسية المصلحية خلقت لدى الشباب نوعا من الإحباط ورغبة في الهجرة، وأصبح الناس يرون المستقبل ضبابيا”. ومثّل ارتفاع منسوب الهجرة غير النظامية خير دليل على رفض الفئات الشبابية خصوصا للمناهج السياسية المتبعة في البلاد، ووفق إحصائيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فإنّ أكثر من 1700 مهاجر غير نظامي تونسي وصلوا إلى السواحل الإيطالية، بينما سجلت السلطات الأمنية أرقاما قياسية خلال الأشهر الأولى من عام 2021 مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية في إحباط عمليات الاجتياز برا وبحرا بإبطال 195 عملية اجتياز للحدود منذ بداية العام. وفاقمت الأزمة الصحية، تبعا للانتشار الواسع لفايروس كورونا وما ترتب عليه من إجراءات (غلق المحلات وحظر التجوال والحجر الصحي الشامل…)، معاناة التونسيين وسط صمت سياسي مطبق في معالجة الأوضاع وتأخر كبير في جلب اللقاحات. وشهدت البلاد موجات متتالية من الاحتجاجات والاعتصامات ضدّ قرارات الحكومة وطريقتها في إدارة الأزمات، بالإضافة إلى توقف نشاط مواقع إنتاج النفط والفوسفات، والمطالب المتواصلة من أجل التشغيل والتنمية وتوفير مقومات العيش الكريم.
مشاركة :