كثيرة هي القصائد التي كتبت في القدس لشعراء مشاهير ، مثل محمود درويش وتميم البرغوثي ويوسف العظم وحبيب الزيود وغيرهم ، وحظيت في مجملها باهتمام النقاد فلسلّطوا الضوء على الرؤى والجماليات في تحليلهم لتلك النصوص ، غير أن (قصيدة القدس) لفائع الألمعي كانت لها نكهتها الخاصة وسياقها وأجوبتها ، لا لأنها جاءت في وقتها حيث تشتعل معركة أحد أحياء القدس القديمة (الشيخ جراح) وما شهدته من اهتمام عالمي وما تمخض عنها من تداعيات في كافة أنحاء فلسطين التاريخيّة من البحر إلى النهر ، حيث خضّبت دماء مقاوميها عتبات الأقصى ، وضرّجت دماء ضحاياها شاطيء البحر الأبيض ليصبح أحمر قانياً بلون الدم النازف من أطفال غزة وشبابها وشيبها، نسائها ورجالاها : مدنيين ومقاتلين ، و انشغال الوطن العربي من الخليج إلى المحيط والعالم الإسلامي بقضيتها على اتساعه وتباين لغاته وتنائي دياره ؛ بل لأنها تبدودفقة نقيّة من ينبوع أصيل من قلب العالم العربي في المملكة العربية السعودية مهد الإسلام ومركز الضاد وحصن الأمة الحصين . التفت الشاعر فيها منذ مستهلّها إلى أبرز تقاليد القصيدة العربية القديمة التي كان يتلمّس الشاعر العربي القديم فيها رفيقاً يبثّه همومه ويفضي إليه بشكواه ؛ فحين افتقد الرفيق والأنيس جرّد من نفسه من يستمع إليه ؛ فإذا بالذات الشاعرة تنشطرإلى شطرين ، يهمس فيها كلّ بما يثقل كاهله من أوزار المعاناة فيما عرف في النقد العربي با(لتجريد) فكان مفتتح القصيدة بوّابة الشاعر للولوج إلى أغوار نفسه يمتح من آبارها ما يخفف عنّه بعض ما يساوره من قلق وما يخامره من هَمٍّ ، وهو– هنا – مثقل بوزرٍعظيم ، ينوب فيه عن أمّة ترى شبح التهويد يهدّد حماها ومسجدها الأقصى الذي يمثّل ضلعا ثالثاً في مثلّث قدسي من بيوت الله التي لا تشدّ الرحال إلا إليها : البيت الحرام والمسجد النبوي الشريف ، لذلك نراه يستحضر النصوص التي تسعفه في التخفّف من أعباء الّلوعة التي تعتصر قلبه وتسكن فؤاده ؛ فإذا بالفعل (دع) الذي يحمل معنى الترك والتخلّي والتهميش للتفرّغ لأمر جليل يستوجب الاحتشاد حوله والتمركز فيه ، عشرات القصائد تبدأ ب (دع ) والتفرغ لما بعد (دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ) و(دع ما فات ) و(ودع عنك عذلي) و(دع عنك ذا السيف) و(ودع عنك لومي واعزف عن ملاماتي) وقصائد أخرى كثيرة تدعوإلى التركيز على ما بعدها ؛ فهذه النصوص تلقي بحمولاتها الدلاليّة في القصيدة ، دعوة إلى التفرّغ إلى أمر جلل ، وهوما رمى إليه الشاعر في مطلع قصيدته : دَعْ عَنكَ أَندَلُسًا وَاسْأَل عَن القُدسِ إِذ فَارَقَ الإِنْسُ فِيهَا بَسمَةَ الأُنسِ فالأندلس بما لها من تراث ومكانة وما أورثته من حسرة في النفوس والقلوب على مدى الحقب والأزماتن تبدوهامشا لا يُلتفت إليه لأن أمراً جللاً أصاب القدس أهم منه ، هذه الالتفاته تنطوي على طاقة شعريّة هائلة تزخر بكم هائل من النصوص المستدعاة التي تنثال عبر الذاكرة الأدبية والتاريخية لتحتفي بالقدس في محنتها الراهنة التي تهدد رمزيتها الإسلامية ومجدها القدسي . يأتي التعليل حجاجيّاً متًسقا مع الدلالة المبتغاة عبر هذا الإيقاع الجناسي بين الإِنس والأُنس، وهولون من ألوان الانسجام الصّوتي الذي تتوحّد فيه ثنائية الوجود الإنساني منطويةً على تواشج العلاقة والتواصل بين المكان والإنسان في تنامٍ مضطّرد للدلالة ، فقد أصاب الصدع هذه الثنائيّة المتلازمة عبر فعل الفراق والتوكيد ب(قد ) من هنا كانت البنية الدلاليّة الرئيسة التي تختصر المأساة في القدس عبر هذا المطلع الاستدلالي الذي احتشد بالتناصّ والتوكيد والحركة والإيقاع . وتتنامى القصيدة في وحدتها العضويّة عبر توظيف عناصر عدة تقوم على التعليل مستكملة عدّة الحجاج من خلال النّفي التي تتكرّر أداته في تناغم بين جملتي الضّرب الذي يندرج في إطار حسن التقسيم والازدواج وما ينجم عنهما من إيقاع متناغم ينساب عبر (حقل الفرح والسعادة) ممثلا في( العيد والصبح ) وحقل ( اليأس والظلمة) في إطار ذلك التماوج الصوتي والنفسي بين النفي والإثبات وهوما يتوافق مع الصدع في الذات الشاعرة ، وهذه وحدة لغوية تشكّل بنية متعالقة مع ما سبقها في اتّصال حميم وتناغم إيقاعيٍّ ينسجم مع الجناس في الوحدة السابقة عبر التكرار (من يأس إلى يأس) حيث ينهض حرف السين بدور واضح في تغذية الحسّ الوجداني النفسي الذي يسري في الأعماق : لا العِيدُ يُفرِحَهُمْ لا الصُّبحُ يُسعِدَهُمْ لَيْلٌ يَطُولُ وَمِن يَأْسٍ إِلَى يَأْسِ وتتعالق الوحدة الثالثة بما سبقها في منظومة لغويّة مترابطة معنويّا، فالأجداد والأحفاد والأسر والقتل والعزم واليأس ثنائيات متّسقة ، وكأن كلاً منها فكّا كماشة يطبقان عليها مشكّلة حالة مأزومة تتحدّر مما سبقها متفرّعةً عنها متواصلةً فيها . غير أن التحوّل الذي انعطف بالقصيدة إلى ذروة جديدة عبر الالتفات إلى خطاب متفرّع منمخاطبة الآخر ليبلغ اليهود وينذرهم بعد أن كان الحديث موجّها إلى الشطر الآخر من الذات ، وإن لم يكن ذلك مصرّحا به ، هذا الخطاب موجّه إلى اليهود: قُل لِليَهُودِ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِم إِنْ أَظلَمَتْ حِقبَةٌ فَالنَّصرُ كَالشَّمسِ ولعل الملاحظ أن عنصراً جديداً يتمثّل في الجملة المعترضة كان علامة تشير إلى رؤية تاريخية تستدرك على الأفهام اعتقادها بأنّ ثمة حلّا قريبا للمشكلة سيكون قريباً ، وهذه الجملة أشبه ب(فلاشة) تحذيرية لافتة إلى أن المسألة قد تطول وتستغرق وقتاً ، وتأتي جملة الشرط مبدوءة بأداة الشرط (إن) التي تفيد التشكّك في الحدوث بعكس (إذا) التي تدل على الترجيح ، وهذا يدل على حسٍّ لغويٍّ مرهف ، والملائمة بين معطيات الاستعارة والتشبيه في قوله (إن أظلمت يوما فالنصر كالشمس) فأظلمت استعارة مكنية ، وكالشمس تشبيه ، وهذه ثنائيّة ضّدية تثير الدهشة وتصدم أفق التوقّع لدى المتلقي . واستمراراً لشبكة العلائق بين العناصر في القصيدة تتولّد هذه المنظومة من عناصر أخرى تحتلّ مركز الاهتمام وبؤرة الدلالة ممثلةً في المسجد ، وهومناط الصراع ودرّة التاج (الأقصى) حيث الإشارة إلى صفاته دون تسميته تأكيداً على أهميته ( القدس مسجدنا ومسرى النبي) ويأتي العطف بين الكفر والفرس ذا دلالة واضحة ، لقد استخدم (إن ) مرتين بوصفها أداة من أدوات الشرط للتشكيك في إمكانية الحدوث . أما اقتباس الآية القرآنية في مستهلّ الوحدة الّلغوية التالية لها “ إن تنصروا الله ينصركم” بمعناها ومبناها فهوتأكيد على حقيقة الحقائق ، ويلاحظ أن الشاعر في أسلوب الشرط الذي شاع في القصيدة كان يركّز على أداة الشرط (إن) للأسباب التي أسلفتُ ذكرها ، فكل شيء مبنيّ على الاحتمال في غياب اليقين الذي تزلزله المواقف وهذه الظاهرة الأسلوبية تعكس الرؤية الحقيقيّة للحالة الشعريّة التي يعيشها الشاعر ، وهويرى كلّ شيء يهتزّ أمامه رغم خطورة الوضع واضطراب الموقف ؛ فهويرصد بعين البصير حقيقة الوضع ، فالقدس تُهوّدُ على قدم وساق ، والمدينة تُخلى من ساكنيها ويهجّر أصحابها قسراً. وفي الختام تأتي القفلة متفائلةً تستشرف الغد حيث يلتئم الشمل وتتجسّد الوحدة في بيت المقدس ، وهكذا تتبدّى منظومة العلاقات بين العناصر الزمنية الأمس واليوم والغد : العراقة والقداسة التي تتّسم بالديمومة ، واليوم حيث الأزمة التي تتمثّل في الاحتلال والمقاومة ، والغد الذي يشهد الخلاص والانفراج ، والمكان المحور وهوالقدس بمسجده الأقصى في ارتباطه بالأزمنة الثلاثة واستحواذه على الزمان والمكان. وما بين القطبين (الزمان والمكان) يقع جدل الثنائية الكبرى في مآلاتها :الهزيمة والمقاومة والانتصار، وصراع الأضداد : أصحاب الحق ودعاة الباطل في سلسلة متقاطبة بين أساليب النفي والإثبات وجملة الشرط والجواب في تجاذب بين الشكّ والاحتمال واليقين . وتأتي القصيدة على بحرالبسيط الذي سمّي بهذا الاسم لانبساط الحركات في عروضه وضربه مما يتيح للشاعر البوح بمكنوناته في غير توتر أواضطراب ، فيأتي إيقاعه سلسا مطواعاً ، وهوما شجّع الشاعر - شأنه شأن الكثير من الشعراء -على استثمار ما يتيحه من اتساع الأفق للبوْح والتوضيح وامتداد رقعته ، وفيه رقّة مشهودة أشار إليها القدماء عبر إيقاعته التي تتيحها الأسباب التي انبسطت في أجزائه السباعية . ومهما يكن من أمر فإن القصيدة –على الرغم من تقليديّتها الجماليّة وتشكيلها العموديّ وقرب معانيها وانحسار الأفق التأويلي فيها – إذ تعبّر عن وجدان جمعي في مرحلة شديدة الحساسيّة تقتضي إبراز موقف فكريّ وعمليّ ، وتتجلّى شاهداَ على لحظة تاريخية حاسمة في تاريخ المنطقة وتحديّات المرحلة ، فهي تجسيد لمباديء ورؤى تتجاوز التعبير الآني الانفعالي إلى توكيد الثوابت وحسم المواقف. وهي أشبه ببيان توثيقيٍّ يلخّص موقفاً تاريخياً ثابتاً يتعلّق بالهويّة والثّقافة والمصير ، من هنا كانت أهميتها ؛ ولهذا فهي - بالضرورة - تختلف عن القصائد الشهيرة التي قيلت في القدس من قبل ، فلا تتعرض للتفاصيل الموغلة في البعد الحضاري والإنثروبولوجي للمدينة وتنبش في حفريّاتها وآركولوجيّتها كما فعل الشاعر تميم البرغوثي الذي أوغل في استقصاءاته الحضارية وسبر أغوارها ، باحثاً عن الجذور في محاجّاة ترمي إلى دحض السرديّات الزائفة حول المدينة وهويّتها ، ولذلك نراه يقول: يا أيها الباكي وراء السور ... أحمق أنت أجننت ,,, لا تبك عينك أيها المنسيّ من متن الكتاب لا تبك عينك أيها العربيّ واعلم أنه في القدس من في القدس ، لكن لا أرى في القدس إلا أنت ولهذا انطوت القصيدة على حقول دلاليّة متعدّدة : دينيّة وتاريخيّة واجتماعيّة وعرقيّة وحضاريّة ومعماريّة ، وتجاوزت ذلك إلى توليد المخيّلة واستدراجها إلى ابتداع حقول أخرى تتقاطع مع الدوائر الدلاليّة السابقة وتحشد ألواناً من التراكيب في رصدٍ مشهديٍّ متنوّع يفضي إلى الحفر بعيدا في مناطق مجهولة من الذاكرة الوجدانيّة ذات الطابع الإنساني والنفسي ، وكانت وليدة رؤىً وطنيّةً تشتبك فيها مع الذاكرة الخاصّة التي تمخّضت عنها التجربة الذاتيّة المباشرة ، فهي تأتي في سياق فنيّ وثقافيٍّ وجماليٍّ يختلف عن تجربة الألمعي التي أدّت دوراًمبدئياً وموقفاً قومياً وعقديّاً اقتضته طبيعة المرحلة . وهذا يقودنا إلى استشراف بعض ملامح قصيدة (القدس) للشاعر محمود درويش التي تجمع بين التأصيل والمواجهة ، إذ يأتي على ذكر النصوص والشرائع التي تعمّق الانتماء إلى القدس ومواجهة التحدّي التاريخى الراهن المتمثل في الصراع المباشر مع العدو: وماذا بعد؟ ماذا بعد؟ صاحت فجأة جنديّةٌ: هُوَ أَنتَ ثانيةً؟ أَلم أَقتلْكَ؟ قلت: قَتَلْتني... ونسيتُ، مثلك، أن أَموت صراع الوجود والبقاء في وجه المحووالفناء ، فالسياقات مختلفة ، وكل نص له ملابساته وزمنه ومحفزاته الإبداعية ، من هنا كان الاهتمام بنص الشاعر فائع الألمعي في هذه المرحلة المنعطف من تحديات الصراع حول القدس. ------------ قصيدة القدس للشاعر فائع الألمعي دَعْ عَنكَ أَندَلُسًا وَاسْأَل عَن القُدسِ إِذ فَارَقَ الإِنْسُ فِيهَا بَسمَةَ الأُنسِ •• لا العِيدُ يُفرِحَهُمْ لا الصُّبحُ يُسعِدَهُمْ لَيْلٌ يَطُولُ وَمِن يَأْسٍ إِلَى يَأْسِ •• أَجدَادُهُم أُسِرُوا أَطفَالُهُم قُتِلُوا لكِنَّهم ثبتوا بالعزمِ والبَأْسِ •• قُل لِليَهُودِ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِم إِنْ أَظلَمَتْ حِقبَةٌ فَالنَّصرُ كَالشَّمسِ •• القُدسُ مَسجِدُنَا مَسرَى نَبِيِّ هُدَى مُطَهَّرٌ رَغمَ كَيدِ الكُفرِ وَالفُرسِ •• ( إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُم ) بِعِزَّتِهِ ونُصرَةُ القُدسِ بِالإِيمَانِ والنَّفسِ •• غَداً نَرَى الفَجرَ يَمْحُو كُلَّ مَظْلَمةٍ وَيَجْمَعُ اللهُ كُلَّ العُرْبِ فِي القُدسِ
مشاركة :