المتمرد على مجتمعه عروة بن الورد

  • 5/27/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

حياة الصعاليك ليست كمثلها من حياة العرب, وفوق أن البدو دائمو الترحال ويبحثون عن منابت الكلأ ومنبع الماء, تجد هذا الصعلوك مرتحلًا من جانبين, رحلة خارجية وأخرى داخلية تُعتبر هي الأقسى والأنكى, عبّر عنها الشاعر المعاصر عبدالله البردوني بقوله: إذا امتطيت ركابًا للنوى فأنا في داخلي أمتطي ناري وأغتربُ لقد جمع عروة بن الورد الحالين, الغربة الداخلية والخارجية ونلحظ ذلك في سيرته وأيامه, وحين تتصفح ما قد كُتِبَ عنه تجد نفسك مفتونًا مرةً وشفوقًا مرات, لا تدري أتحمد له صعلكته هذه وحياته المُرّة التي أزهرت لنا أدبًا شهدًا تتناقل سيرته الأجيال, أم لا تحمد! قبيلة عبس التي هي قبيلته ومجتمعه الذي كان يجب عليها أن تأويه, أو كان الأحرى بعروة شاعرنا أن يلتزم بما فيها من مبادىء وقوانين وأعراف, نجدها تخلّت عنه كما هو تخلّى عنها, فأصبحت المعادلة صعلكةً لا مفر منها, من هنا بدأت العلاقة بين عروة والمجتمع, حيث أضحت علاقة متأزمة متشنجة, لم تسمع بعدها عن تنازل طرفٍ أو رجوع آخر. ولِمَا كان يراه عروة في مجتمعه الذي كان أبوه هو مصدر شؤم لقبيلته من جهة بسبب ما أوقعه من حرب بين عبس وفزارة, وأمه من جهة أخرى بسبب أن قبيلتها أقل شرفًا من عبس, دعته هذه الظروف ليرتحل ويتمرّد ويتصعلك ويمتشق حسامه ويعتاش على الغزو والإغارة للسلب والنهب. ومن الطبيعي أنك حين تتمرّد على القبيلة والمجتمع التي عملها عملاً جماعيًا منظمًا, ستخرج به إلى الفردية والعمل العشوائي الغير منظم, كما هو حاصلٌ في سيرة شاعرنا الجاهلي عروة بن الورد. ولعل بداية الحَنَق الذي حمله عروة بن الورد على مجتمعه من الصور المتناقضة التي كان يراها بدءًا من نشأته حيث كان أبوه يُفضّل أخاه الأكبر عليه رغم غناه, ورغم حاجة عروة إلى من يرعاه ويُقوّم عوده, وقد عوتب مرة فقيل له « أتؤثر الأكبر على غناه عنك على الأصغر مع ضعفه؟ قال: أترون هذا الأصغر؟ لئن بقي مع ما أرى من شدة نفسه ليصيرن الأكبر عيالا عليه». هذه صورة واحدة من عدة صور كان يراها عروة وغيره من الصعاليك الذين كانوا يؤمنون بأفكاره ويأتمون برأيه, وعروة في الحقيقة تميّز عنهم بمبدئه الاشتراكي الذي لا يحاول أن يبتلع كل ما تقع عيناه لنفسه, بل يٌقسّمه مناصفة, ولذلك أحبوه وقدّموه وسموه أبا الصعاليك, وإذا ما مرتْ بهم سنةٌ مجدبةٌ قالوا ليس لها إلا عروة, فتجدهم مصطفين ببابه متمسكين بجلبابه. لم يُعجب عروة بن الورد حال مجتمعه الذي كان يأمر فيه القوي ويرضخ فيه الضعيف, وكان فيه الغني يبسط موائده دون التفات أو نظرة شفقة على الفقير, وما كان من عروة إلا أن أعلن حالة التمرد, وسلك طريق السلب والنهب, رغبة في موازنة الأمور وإعادة الحقوق -كما يزعم- ومساعدة الآخرين, وتجد ذلك واضحًا في شعره حين يقول: أَيَهلِكُ مُعتَمٌّ وَزَيدٌ وَلَم أَقُم عَلى نُدَبٍ يَوماً وَلي نَفسُ مُخطِرِ كيف يهلكون وأنا لي نفس حاضرة للتضحية من أجلهم؟ وسأبذل ما غنمتُ لهم, وسأجعل نفسي دون هلاكهم. وكذلك تجده قائمًا بأمر الضعفاء والنساء وأقربائه الذين يلجأون إليه من وقت وآخر, لماذا؟ لأن المجتمع لا يهتم بهم ولا يُلقي لهم بالاً, ويدعهم وشأنهم, فلم يكن من عروة إلا أن يتمرد التمرد الجميل, ويأخذ هو بتلابيب الأمور ويبادر بالسلب من الأغنياء الأشحّاء ليُعطي من التجأ حاجته, ألا تراه يقول لزوجته: أَبى الخَفضَ مَن يَغشاكِ مِن ذي قَرابَةٍ وَمِن كُلِّ سَوداءِ المَعاصِمِ تَعتَري فهو لا يقرّ له قرار إذا ما طرقه طارقٌ وبخاصة إذا كان من أهل الضعف, وهو كذلك يلوم مجتمعه على نكرانهم له وعدم التفاتهم إليه, فيقول: إِذا المَرءُ لَم يَبعَث سَواماً وَلَم يُرَح عَلَيهِ وَلَم تَعطِف عَلَيهِ أَقارِبُه فَلَلمَوتُ خَيرٌ لِلفَتى مِن حَياتِهِ فَقيراً وَمِن مَولىً تَدِبُّ عَقارِبُه وَسائِلَةٍ أَينَ الرَحيلُ وَسائِلٍ وَمَن يَسأَلُ الصُعلوكَ أَينَ مَذاهِبُه؟ مَذاهِبُهُ أَنَّ الفِجاجَ عَريضَةٌ إِذا ضَنَّ عَنهُ بِالفَعالِ أَقارِبُه إذا كان أقاربه بخلاء ممسكين للمال, ولم يعطوا ولم يمنعوا الضيم ولم يقوموا بحقه, فالموت خير له من الفقر ومن مولى يمنّ عليك بماله ومتاعه. وربما نَقِمَ عروة على مجتمعه وتمرّد لأجل نسب أمه, حيث يراه أقل شرفًا, وعرّض بذلك في بيتٍ له مدافعًا عن أبيه قائلاً: لا تَلُم شَيخي فَما أَدري بِهِ غَيرَ أَن شارَكَ نَهداً في النَسَب كانَ في قَيسٍ حَسيباً ماجِداً فَأَتَت نَهدٌ عَلى ذاكَ الحَسَب وله أيضًا: ما بِيَ مِن عارٍ إِخالُ عَلِمتُهُ سِوى أَنَّ أَخوالي إِذا نُسِبوا نَهدُ أخيرًا, وقبل أن نسدل الستار عن تمرّد عروة على مجتمعه, سأقف معكم مع مظهر من مظاهرِ أي مجتمع وهو مظهر الفقر وكيف نَظَرَ له وصوّره عروة بن الورد على عكس ما صوّره الشعراء وأحاط به الأدباء, وبزعمي هو أصدق من نظر له بعين الحقيقة بلا منازع, حين قال: المال فيه مهابةٌ وتجلّةٌ والفقر فيه مذلةٌ وفضوحُ هناك مثلٌ ماليزي يقول: «نكتة الغني مضحكة دائمًا», بمعنى أن الفقير لو يأتي بما استظرف من مُلَحٍ محاولاً أن يستنطق الأسنان ما بثّته بياضها, وقسْ على ذلك من صور اجتماعية وإنسانية شتى, وعروة هنا يقول إن لم تكن غنيًّا فاقبل بالمذلة والفضيحة. وله بيت سائرٌ كذلك, كان يخشى عبدالله بن جعفر أن يَعْلَمَه أبناؤه, وهو قوله: ذريني للغنى أسعى فإني رأيتُ الناس شرّهمُ الفقيرُ عروة بن الورد هنا يلوم زوجته ويطلب منها أن تدعه يغترب ويسعى في الأرض من أجل طلب الغنى, فإن الناس تنظر للفقير على أنه شر الناس. وله أيضًا في مثل هذا المعنى: دَعيني أُطَوِّف في البِلادِ لَعَلَّني أُفيدُ غِنىً فيهِ لِذي الحَقِّ مُحمِلُ وهنا فائدة أخيرة أراها ماثلةً في مفردتي (دعيني و ذريني) رغم اختلاف القصيدتين في بحرهما وقافيتهما, وإذ اتفقنا فيما سبق أن مجتمع عروة لم تكن قبيلته, فمن إذن مجتمع عروة؟!. إن مجتمع عروة حصادُ يده وسبيه التي تتمثل في زوجته سلمى التي بثّها كثيرًا من الأشعار في ديوانه وخاطبها, وكذلك في زوجته -فيما بعد- تماضر العبسية. إن مجتمع عروة لم يكن قبيلته بل نساءه, وتلحظ ذلك من خلال مناداته الدائمة في شعره وذكْر أسمائهم الصريحة مرة وكُنَاهم مرات كسلمى وسليمى وتماضر وأم مالك وأم حسان وأم وهب وابنة منذر, بل إن عروة لم يكن يذكر الرجال والقبائل إلا باللوم والتقريع والفخر عليهم كبني ناشب وبني عوذ بن زيد ونهد وعامر وبني أنمار وبني لبنى وأوس, وكمالك وبلج وقرع وطلق وجبار وقيس وغيرهم.

مشاركة :