«سوق قبة رشيد».. جدلية مسرحية بوجع الهوية

  • 5/29/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لمحمد العثيم معجمه اللغوي ومشروعه المسرحي الذي يتجاور حيناً ويتحاور أكثر الأحيان في نصوصه التي اشتغل فيها على الأسطورة والطقس والشعبيات، وكان مجيداً للتنظير لمشروعه ومتقناً لاشتغاله المسرحي. نص (سوق قبة رشيد) يأتي كسيرة مسرحية لمكان (حارة) تموت أمام طغيان التمدن وسطوة الشركات والإسفلت كرمز لطغيان الحضارة على كل أشكال الماضي. يحاول العثيم في هذا النص الفرار بالحارة وبالزمن الماضي ومظاهره من الانسحاق تحت جرارات الحضارة لكي ينجو بتلك الحقبة من أن تكون مجرد محطة عبور إلى عالم جديد، حتى أن النص في كثير من مقاطعه يميل إلى نبرة رمادية عند الحديث عن التثمين رغم خطاب المهندس القاسي في هذا المشهد. يختار العثيم (العيد) كزمن للحدث بكل رمزيته الفرائحية واقترانه بالبهجة، ثم يؤثث الفضاء المسرحي للمشهد بـ(مسّاحين ينصبون معداتهم ويبدؤون القياس على إيقاع أصوات الجرارات التي تقطع مشهد غناء الأطفال وهم يطلبون العيدية). يتساءل الجمهور: "وش يبون؟ وش يسوون؟" المهندس: "نبي نمسح الحارة" الجميع (بصوت واحد وفرح مبالغ فيه): "تثمين هدم؟!" أحدهم: "ليش يهدون الحارة؟" آخر: "يعطونك كنز ثمن بيتك عشرين مرة" ثم يرمون موجودات الدكاكين بفرح احتفالاً بالثروة القادمة وسط هياج عام وصراخ في إشارة إلى (التفريغ الروحي / المادي) لفضاء الحارة، ليظهر الإحساس الضمني بـ (الأنا الرافضة) التي تمثل سيرة العثيم نفسه، حيث (المسرح) مثله مثل أي حقل إبداعي يشكل أقنعة للذات تتسرب إلى بنية العمل وتستبطنه بوهج الحوار. شخصية دغيمان (الكبير في السن) كما قرر العثيم تمثل ما هو أقرب إلى المعنى الذي تتعبأ به الحارة، ويرمز إلى حقبة تتجاوز الشخص بدليل مشاغبته لذلك الفرح الذي أبداه أهل الحارة في هذا الحوار: دغيمان: "وش بلاهم يا علي؟" علي: "فرحانين بالهدم وتثمين الحارة ويبشرون بعضهم بتثمينها" دغيمان كمن لم يفهم ( تثمين ؟!) علي: "يبون يهدون الحارة ياعم دغيمان، ويعطون كل واحد أكثر من قيمة (الخرابة) عشر مرات" دغيمان -بسخرية-: "الحمد لله، قل يا الله العقل" علي: "بس هذي ملايين ياعم دغيمان، أحد يعاف الملايين ؟" هنا يستبطن العثيم شعوراً رثائياً بحس المثقف المترع بالوعي المتعلق بالمعاني الكبرى على لسان دغيمان. دغيمان: "الله يهديك يا علي، هو العمر يباع بالملايين ؟ هي المعاني تباع بالملايين ؟ هو الحب يباع بالملايين؟" في هذه المشهدية الغنية، والمكتنزة بالحمولات والدلالات، والمؤثثة بشكل مثالي، يقبض العثيم على اللحظة ويقود آفل الزمن إلى حيوية الحدوث، محاولاً زرعه على المسرح واقعاً يشبه واقعنا على وجه التقريب. يأتي نص "سوق قبة رشيد" في تصميمه المسرحي كمرثية مثقف عبر غنائية مرهفة على غرار: (ما عفناها، لا والله) و(خسارة خسارة ما أحد يبي داره، كلٍّ نسي جاره والحب القديم)، لا ينقصها حس الاعتزاز بالهوية والمكان الذي يتجاوز الحارة ليشمل كل أرجاء الوطن (دارنا هي عزنا لا ما نبيع، من هو يبيع الوالدة عقب الرضاع؟ !!) هنا لضرورة اكتمال الصراع ينشئ العثيم مجتمعاً كل أفراده من (العم دغيمان إلى سليمان مروراً بعلي وسعد بل حتى الجوقة والجمهور) مهيؤون للاستقطاب الحاد والانقسام في كل لحظة، حيث التمزق هو العنوان الممكن للحظات التحول. جاءت سوق قبة رشيد نصا مرئيا على شكل حشد هائل من المشاهد الغنية بالأشعار والأهازيج والصور والأحداث والصراعات والتناقضات، ومثلت وثيقة حية عكست شخصية المكان وحال الإنسان في أزمنة التحول. تتعالى في فصول سوق قبة رشيد ولوحاتها النبرة الغنائية والتي شكلّت نموذجاً للمسرح الغنائي الذي كان العثيم رائده، ونجح في جعل قبة سوق رشيد تصميماً مسرحياً للحقيقة، حيث بدا واضحاً فيها كما هو حال جُلّ نصوصه المسرحية (العثيم الكاتب الناقد المخرج في آن واحد). في نصوص العثيم يحضر المسرحي التفصيلي الذي يهتم بأدق التفاصيل التي توصل فكرة ومغزى المشهد، حيث لا مكان لفائض أدق مكوناته، لذا نجده يحدد حتى مستوى النبرة في كل مشهد لكل شخصية بما يوائم اللحظة ويجسدها مسرحياً، ويشير إلى طول المنصة التي يرتقيها المتكلم، فيما تتجسد بين حوار وآخر صورة الناقد الصارم. محمد العثيم قبة رشيد قديما

مشاركة :