أبوحيان التوحيدي كان له الحق في إحراق كتبه أحمد سعيد نجم من دلالة الانحطاط أن كتب التوحيدي الناجية من الحرق اتهمت بالشؤم فوضعت في قماقم مخصصة لحبس الأعمال الملعونة. التوحيدي عرف أن الانحطاط سيصيب كتبه باللعنة من المؤكد أن أبا حيان التوحيدي قد يصاب بدهشة بالغة لو أتيح له أن يعرف بأن لنا نحن نزلاء الألفية الثالثة تقييما مخالفا لتقييمه الشخصي للقرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي؛ القرن الذي عاش ومات فيه. وبالنسبة إلينا فقد بلغت الساحة الثقافية في الإسلام أوجها في ذلك القرن. ففيه كما يقول المفكر الجزائري المتميز محمد أركون في كتاب “الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد”، “اتسعت هذه الساحة إلى أبعد مدى ممكن، سواء من حيث المعارف والعلوم الممارسة فيها، أو من حيث المشاكل التي طرحت للنقاش، أو من حيث الأفكار التي تم تداولها من المثقفين” (محمد أركون “الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد” ترجمة وتعليق: هاشم صالح، لافوميك، الجزائر). وهذا الرأي الذي أكده من قبل أركون ومن بعده كثيرون صائب تماما، وهو رأي أغلبنا، غير أنه يأتي بعد مرور أكثر من ألف عام على وقائع العيش اليومي القاسي الذي مارسه الناس أيامذاك. وأما بالنسبة إلى أبي حيان فالوقائع الشرسة لحياته، وهي وقائع لم تعرف الشفقة، وتجهل شيئا يدعى الرحمة، وهي بالكلية لم تسمع بما سيدعوه البشر لاحقا حقوق الإنسان، فإنها ألجأته في وصفه لعصره إلى استخدام أبشع النعوت. فتلك الأيام كانت في ما يخصه، ويخص الملايين من البشر الذين شاطروه العيش المضطرب، أيام “العيش النكد، والشؤم الشامل، والبلاء المحيط، والغلاء المتصل، والدرهم العزيز، والمكسب الدنس، والخوف الغالب ورزوح الحال، وفقد النصر، وعدم القوت، وسوء الجزع، وضعف التوكل نعم، ومع الأدب المدخول، واللسان المتلجلج، والعلم القليل، والبيان النزر، والخوف المانع” (أبوحيان التوحيدي “أخلاق الوزيرين” تحقيق محمد بن تاويت الطنجي. طبعة دار صادر. بيروت. 1992 مصورة عن طبعة المجمع العلمي العربي بدمشق). وكانت أياما قاسية على هذا الكاتب الكبير، أصفى مرايا عصره، عصر الاضطراب الاجتماعي والتشرذم السياسي، الكاتب الذي وصفه المستشرق الألماني آدم متز في كتابه “الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري” بالقول “ربما كان أعظم كتّاب النثر العربي على الإطلاق” (آدم متز “الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري” ترجمة محمد عبدالهادي أبوريدة. لجنة التأليف والنشر، القاهرة). فهذا الذي لعله أعظم كاتب في اللغة العربية اضطر في أواخر سني عمره بعد الشهرة والمعرفة “إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف عند الخاصة والعامة وإن زمانا أحوج مثلي إلى ما بلغك، قال أبوحيان مخاطبا القاضي أبوسهل الذي لامه على إحراق كتبه، لزمان تدمع له العين حزنا وأسى” (ياقوت الحموي، معجم الأدباء، دار المأمون بالقاهرة. الطبعة الأخيرة). ويأس أبي حيان من أبناء عصره ومن أبناء العصور الذين سوف يأتون بعد أبناء عصره، دفعه عملا بالمثل القائل “بيدي لا بيد عمرو” إلى إحراق كتبه. فقد أحرقها كي لا يمكّن أحدا من التلاعب بها “ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها”. ولسوف يتنفس، وهو ينظر إلى النيران تلتهم تصانيفه حرفا حرفا، ذات الأنسام الشافية التي يستشعرها كل من ينفضون العلائق والأغلال الأرضية عن أرواحهم، وهي ذات الأنسام التي سبق لأحد أسلافه وهو داود الطائي أن أحسها بعد أن ألقى كتبه في البحر، وقال في وداعها “نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول”. ولقد صدق ظن أبي حيان في المقبل من الأزمان. فالعصور اللاحقة لعصره قامت بالتخلص من كتبه بطريقة أخرى، وذلك من خلال إقصائها، وإخفائها داخل قماقم مخصصة لكل ما هو مشؤوم ومحظور ومبعد عن أنظار العامة والخاصة. ومثل ذلك الإقصاء المريب لأبي حيان ولمؤلفاته سوف يثير دهشة المؤلف الموسوعي ياقوت الحموي (توفي سنة 626 هجرية/ 1229 م) الذي كتب بعد نحو قرنين تقريبا على وفاة التوحيدي. فبعد أن قدم ياقوت ترجمة هي الأوفى لأبي حيان في المراجع العربية القديمة في كتابه “معجم الأدباء”، واستهلها بعبارات يمكن أن توصف بلغة عصرنا بأنها عبارات أيقونية “فيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة، وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية”. فمن بعد هذا التوصيف الأيقوني ثبت ياقوت بشيء من الحيرة استغرابه التالي “ولم أر أحدا من أهل العلم ذكره في كتاب، ولا دمجه في خطاب، وهذا من العجب العجاب”. وذلك التوصيف من الحموي لأبي حيان جاء ونحن ما نزال في أول طريق التقهقر الحضاري. وأما بعد أن نتلوى مع القرون المديدة في تلويها المتقهقر فسوف نصل إلى القرن الثامن الهجري. وفيه سيتم مع الإمام الذهبي (748 هجرية/ 1348 م) استبدال الأيقونات الناصعة التي طوقت عنق أبي حيان بأخرى شديدة القتامة. وسوف تبدأ ترجمته في المؤلف الموسوعي الكبير “سير أعلام النبلاء” على النحو التالي “الضال الملحد، أبوحيان، علي بن محمد بن العباس، البغدادي، صاحب التصانيف الأدبية والفلسفية” (الإمام شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرنؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي. مؤسسة الرسالة. بيروت 1996). وبالرغم من هذا الهجوم الماحق من الذهبي على أبي حيان التوحيدي فإنه مع ذلك لن يعدم له نصيرا في شخص الإمام تاج الدين السبكي (771 هجرية/ 1370 م). ومما جاء في كتابه “طبقات الشافعية الكبرى” دفاعا عن أبي حيان “ولم يثبت عندي إلى الآن من حال أبي حيان ما يوجب الوقيعة فيه، ووقفت على كثير من كلامه فلم أجد إلا ما يدل على أنه كان قوي النفس، مزدريا بأهل عصره، ولا يوجب هذا القدر أن ينال منه هذا النيل” (الإمام تاج الدين السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق محمود محمد الطناحي وعبدالفتاح محمد الحلو. دار إحياء الكتب العربية. القاهرة 1964). هل وضع الإمام السبكي في توصيفه الدقيق هذا لحالة أبي حيان الشخصية ولمجمل إبداعاته إصبعه على مكمن المشكلة؟ وحصل بالتالي المعنى الحق لخطاب أبي حيان وأن المقولة الدلالية الحاضرة في معظم ما كتبه هي “قوة النفس وازدراؤه منافقي عصره من ذوي النفوذ والسلطان”، وأن من تيماته الأخرى دفاعه عن حق الانسان، أي إنسان، في أن يثأر لإنسانيته ولكرامته من ممتهنيها أيا كانوا، ومهما علت مواقعهم “وإنما يخدم من انتصب خليفة لله بين عباده بالكرم والرحمة، والتجاوز والصفح، والجود النائل، وصلة العيش وبذل مادة الحياة، وما يصاب به ذو الكفاية (…) وأما إذا كان خليفة الله بين عباده ساقطا وخسيسا، ومضادا لكل ما ذكرنا من صفات حميدة، فالدين والحكمة يقولان بأن لا طاعة له، أيا كان موقعه، بل على العكس ينبغي أن يشهر به في كل سوق، وفي كل مجلس” (أبوحيان التوحيدي، أخلاق الوزيرين، مرجع سبق ذكره). ولا يخفى ما في أقوال أبي حيان هذه من مخالفة صريحة لفضيلة التحلي بالصبر، وتحمل طيش الحكام وجبروتهم، وعدم النيل منهم، أو الخروج عليهم، مهما اشتطوا أو تمادوا أو استهتروا بأموال الناس، واستباحوا أرواحهم وحرماتهم، وهي الفضيلة التي يوصي بها معظم الفقهاء حفاظا على وحدة الأمة. فمن هاهنا، ولا شيء غير ها هنا، نفهم الهجوم الكاسح من معظم الفقهاء على أبي حيان، وإلا فإننا لو تحدثنا بلغة الدين والإيمان، فسنقول بحق إنه كان أقرب وأكثر تواصلا مع الله من معظمهم. وعلى من يشكك بهذه الدعوى أن يقرأ كتابه المسمى “الإشارات الإلهية“. أجل، لقد قدم الإمام السبكي تبرئة وازنة لأبي حيان وتراثه الكتابي، غير أن تلك التبرئة ظلت صرخة في واد مهجور. ففي القرون اللاحقة على القرن الرابع الهجري اختلف كامل إيقاع الحضارة العربية الاسلامية. وفي إيقاعها الجديد لم يعد ممكنا لا تأليف ولا حتى قراءة كتب مثل “الإمتاع والمؤانسة” و”المقابسات” و”الهوامل والشوامل” و”أخلاق الوزيرين”. والسبب في ذلك في غاية البساطة: فحتى تكتب مثل تلك الكتب، وحتى تجد من يقرأها، ينبغي أن يوجد على أرض الواقع رجالات من أمثال أبي سليمان السجستاني، وأبي سعيد السيرافي، ومسكويه، ويحيى بن عدي، والمتنبي، وابن جني، وتطول القائمة. كما وينبغي بالمثل أن يوجد لأمثال هؤلاء المبدعين رعاة يكون أكبر فخرهم أن تضم دواوينهم ومجالسهم كافة أصحاب المحابر من أمثال سيف الدولة الحمداني، وعضد الدولة البويهي، وابن الفرات، والمهلبي وابن العميد والصاحب بن عباد وأبي عبدالله العارض، وبالأخص هذا الأخير (قتل سنة 357 هجرية) وهو الذي أثمرت المنادمة بينه وبين أبي حيان عن الكتاب العظيم “الإمتاع والمؤانسة”. والوزير أبوعبدالله العارض الذي قال يفاخر بكوكبة الأدباء التي ضمها مجلسه “والله ما لهذه الجماعة بالعراق شكل ولا نظير، وإنهم لأعيان أهل الفضل، وسادة ذوي العقل، وإذا خلا العراق منهم فرقن على الحكمة المروية، والأدب المتهادي، أتظن أن جميع ندماء المهلبي يفون بواحد من هؤلاء، أو تقدر أن جميع أصحاب ابن العميد يشتهون أقل من فيهم”. (أبوحيان التوحيدي، الصداقة والصديق، تحقيق د. إبراهيم كيلاني. مؤسسة الرسالة. دمشق – بيروت). وهكذا ففي القرون التي تلت القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، القرن الذي لعنه أبوحيان وأحرق كتبه احتجاجا على العيش المذل فيه، لا أبطال مسرحية الإبداع الفكري ممن أخذوا الساحة الثقافية في الإسلام إلى أوسع مدى ممكن لها عادوا موجودين، ولا خشبة المسرح، أي المجالس التي أقامها رعاة الأدب والعلوم لاحتضان حوارات وشغب كافة أصحاب المحابر ظلت قائمة مثلما كانت؛ وإن صدف في العصور التالية على عصر أبي حيان وعثر على من يتفلسف، أو يتكلم، أو يتهرطق بحسب توصيف الفقهاء لأي تفكر عميق في العقائد وفي الأشياء وما يمارسه كل البشر، فقد كان في انتظاره القتل أو التشريد، كما جرى مع المتصوف السهروردي القتيل، مطلع الدولة الأيوبية. وعلى العموم فالحكي عن انحطاط العلم والأدب في تلك العصور يستحق وقفات أطول من هذه الوقفة، وأكثر تعمقا. واختصار القول فيها يمكن أن يلخص كالتالي: إن من خصائص أي عصر من العصور، كما هو معروف للجميع، أنه يعيد هيكلة الأقوال البشرية السابقة عليه وفقا لروحه ولمقتضيات البرهة التي بلغها تطورا أو تقهقرا، انطلاقا من راهنه، من الآن وهنا. وبالتالي فالعصر، أي عصر، لا يحدد لأبنائه ممكنات الكتابة فقط، بل وممكنات القراءة أيضا. وإذا كنا نقرأ أو نكتب في أي وقت من الأوقات، فلسنا على الحقيقة من يقرأ ولا من يكتب، بل هو عصرنا، وقد أمسكنا بالقلم والكتاب نيابة عنه وعنا، لنكتبه ويكتبنا، ولنقرأه ويقرأنا. ولكن، هل سبق أن أوردت في هذه المادة شيئا عن القماقم المخصصة لحبس الأعمال الملعونة؟ نعم، ومن بين الكتب التي أصابتها لعنة المنبوذين، حيث لا يعود أحد يرغب بلمسها أو الاقتراب منها، كتاب لأبي حيان التوحيدي عنوانه في إحدى طبعتيه “مثالب الوزيرين” وفي طبعة أخرى “أخلاق الوزيرين”. فهذا الكتاب الذي لا غنى عنه لكل باحث يريد دراسة أدب تلك الحقبة المزدهرة أدبيا وفكريا، والمنحطة سياسيا واجتماعيا، منعت من تداوله في الحقبتين المملوكية والعثمانية أسطورة تقول إنه يجلب الشؤم لكل من يقرأه. ومما جاء في “وفيات الأعيان” للقاضي ابن خلكان (681 هجرية/ 1282 م) وكان من المؤمنين بشدة بتلك الأسطورة المزعومة “وكان أبوحيان، علي بن محمد التوحيدي العباسي قد وضع كتابا سماه ‘مثالب الوزيرين’ ضمنه معايب ابن العميد والصاحب بن عباد، وتحامل عليهما، وعدد نقائصهما، وسلبهما ما اشتهر عنهما من الفضائل والأفضال، وبالغ في التعصب عليهما، وما أنصفهما. وهذا الكتاب من الكتب المحدودة (المشؤومة)، ما ملكه أحد إلا وانعكست أحواله، ولقد جربت ذلك، وجربه غيري على ما أخبرني من أثق به” (ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق د. إحسان عباس. دار صادر. بيروت 1977). إذا فذلك هو رأي القاضي ابن خلكان في كتاب “أخلاق الوزيرين”. ولو كنا نكتب مادتنا هذه في القرن الذي عاش فيه، القرن السابع الهجري، لرددنا معه: إن الأمر بخصوص كتاب “أخلاق الوزيرين” ليس جائزا فحسب، بل إنه مجرب أيضا. وأما إذا انتمينا إلى رؤى عصرنا الراهن، إلى الآن وهنا، اللذين يخصان برهتنا، فسوف نكتفي بعد قراءتنا لمثل الأسطورة التي أوردها ابن خلكان بالابتسام.
مشاركة :