زرت منذ عامين المكتبة الوطنية بباريس. صحيح إنها قلعة ضخمة من الإسمنت والحديد، لكن ينبغي أن أضيف إلى ذلك الوصف أنها قلعة عظيمة للثقافة والاطلاع والبحث. نزلت إلى القبو ذي الشكل المستطيل، وإذا به حديقة كبيرة جدّاً، وهذا القبو يحتوي على قاعات للمطالعة تحيط بالحديقة من أربع جهات. وإذا بي أشاهد ما لم أشاهده في المكتبات العربية، ولا الخليجية، ولا السعودية المحلية. شاهدت في كل قاعة عشرات، بل مئات من الكراسي والطاولات، فلم أجد مقاعد خالية إلا القليل، فقد كانت زاخرة بالقراء والباحثين، ورأيت بشرًا جمًّا غفيرًا، ولكني لم أسمع لهؤلاء البشر صوتًا إلا همسًا بينهم وبين الموظفين المتخصصين بخدمة هؤلاء الباحثين والقراء، أو صوت أوراق الكتب أو صرير الأقلام. جلست وطلبت أن أطّلع على كتاب من مطبوعات مطبعة ميديشي القديمة في روما، وهي من أول المطابع التي طبعت الكتب العربية في العالم، عام 1000 للهجرة، وميديشي نسبة إلى مؤسسها (فردينا ندودي ميديشي) منذ 450 سنة. فأخبروني بوجود عدة كتب من هذه المطبوعات العربية، من ضمنها كتاب (القانون) لابن سينا، أحضروه لي، فإذا هو قد طبع عام 1002 هجرية/ 1594م تقريبًا. ولي حكاية مع كتاب من مطبوعات هذه المطبعة، فقد زرت مركز البحوث والدراسات الكويتية في الكويت، وكنت في لقاء مع مدير المركز الحالي أستاذنا الدكتور عبدالله بن يوسف الغنيم، وزير التعليم الأسبق وصاحب المؤلفات والبحوث القيمة، فقال لي: حدثني الشيخ صالح آل الشيخ، وزير الشؤون الإسلامية، إنه اشترى كتابًا من كتب مطبعة ميديشي بخمسين ألف دولار. قلت للدكتور: هذه الحكاية حصلت لنا في مكتبة الملك فهد الوطنية، وقد لا يعرف الشيخ صالح ماذا فعل بنا حينها. سأروي لك ماذا حصل. فقد تلكأت مكتبة الملك فهد في الشراء وتقدم هو للشراء، فقد عرض علينا في المكتبة نسخة من مطبوعات هذه المطبعة، في مجلد واحد وهو كتاب مختصر (نزهة المشتاق في ذكر الأمصار والأقطار والبلدان والجزر والمداين والآفاق ) وصاحب الأصل هو العالم الجغرافي الإدريسي، توفي عام (560هـ - 1166م) وقد طبع هذا المختصر عام 1001 هـ/ 1593م تقريبًا. وكان من عرض الكتاب على المكتبة خارج المملكة قد طلب مبلغًا كبيرًا جدّاً سعرًا للكتاب، وهو خمسون ألف دولار، ولكن تأخرت المكتبة في العزم على الشراء، فلما سافرنا ولم يكن معنا - مع الأسف - أمر بالشراء، بل الاطلاع على الكتاب فقط من الناحية الفنية، فلما وصلنا إلى من عرضه، قال: سبقكم بها وزيركم الشيخ الكتبي صالح آل الشيخ، فقد اشترى النسخة وبالقيمة نفسها، لكن سأحضر لكم نسخة أخرى في المستقبل؛ فرجعنا بخفي حنين. عوداً على بدء من زيارة مكتبة باريس، أقول: بما أني عملت في مكتبة الملك فهد الوطنية ما يقارب 23 عامًا فقد تمنيت أن أرى مثل هذا المنظر المهيب الذي رأيته في قاعات مكتبة باريس الوطنية. وليس هذا ببعيد في ظل اهتمام خادم الحرمين الشريفين بمكتبة الملك فهد الوطنية، وشمول المكتبة باهتمامات ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان. ونستذكر هنا أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز هو من أشرف على بناء المكتبة وتأسيسها وتطويرها، وعاشت المكتبة في زمنه أزهى أيامها وأرقى خدماتها، وهو من قال لصحيفة الشراع اللبنانية: «أنا لا أؤمن بالمشاريع البراقة بل بالمشاريع الواقعية التي يحتاجها الناس ...». مجلة الشراع اللبنانية، العدد 1309. صحيح أن مكتبة الملك فهد الوطنية ذات مبنى جميل جدّاً وضخم جداً وبراق جدّاً، بل يعد قلعة من قلاع الكتب في العالم العربي، لكنها تحتاج إلى أن يضاف إلى أوصافها تلك وصف آخر، هو المهم في المشروعات الوطنية، وهو ما ينشده خادم الحرمين الشريفين، وولي عهد الأمين، وهو بأن تكون المكتبة قلعة ثقافية، فتلك الخدمات والجهود الكبيرة من لدن خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين يجب أن تتوَّج بجمهور من القراء، وجمهور من الباحثين، وجمهور من المثقفين، وبقائمة من البرامج المحفّزة والداعمة للقراءة والبحث والاطلاع والتثقيف. ولن يتم ذلك إلا بإعادة النظر في سياسة المكتبة مع المجتمع السعودي، وخاصة مع فئة الشباب والشابات. فليت القائمين على المكتبة يبحثون عن سبل وأطر لتأهيل المكتبة لتكون البيت والملاذ الآخر لشبابنا وشباتنا، ومقهاهم الأول، وتكون القراءة والبحث غذاء لأرواحهم، ويغدو الكتاب جليسهم وأنيسهم
مشاركة :