سؤال السعادة هو من بين الموضوعات الأساسية التي شغلت المباحث والأطروحات الفلسفية، إذ احتل الموضوع حيزاً واسعاً في الاشتغالات الفكرية، كما أدلت الأديان بدلوها فيه. وتفتح مسألة السعادة الباب لموضوع آخر وهو محدودية حياة الإنسان، إضافة إلى إدراك هذا الكائن لجملة من الشروط التي تحد من حريته ورغباته في الحياة، غير أنَّ هذه التعقيدات لم تُثنِ الإنسان عن البحث والتجريب لأنَّه محكوم بالحياة، على حد قول البير كامو وهو يتوقف في روايته «الموت السعيد» عند ثنائية الموت والحياة، وما يُبررُ حالة السعادة واليأس لدى الإنسان. كما يقدم رؤيته حول ضرورة الاندماج في الحياة والتناغم مع إيقاعات الزمن بدلاً من الاقتناع بتصورات معينة حول السعادة. كأن بصاحب «الغريب» يقتفي أثر نيتشه، فالأخير رأى أن ما أضر بالإنسان هو تضحيته بالحياة من أجل مفاهيم مُجَرَدةَ. هنا يحاول كامو معالجة مسألة السعادة بربطها مع مفهوم البساطة وعدم التعقيد. كما أنَّ الموتَ برأي كامو لا يُعيقُ ممارسة الحياة بالعنفوان والرغبة الملتهبة. الفيلسوف الروائي بخلاف كل الفلاسفة، آثر كامو الابتعاد عن صوغ أفكاره وتصوراته في قوالب نظرية وفلسفية بل بثَّ فلسفته في حنايا أعماله الروائية، وهو يقول إذا أردت أن تكون فيلسوفاً فأكتب الروايات. ومن ثمة يرسمُ صاحب «الملكوت والمنفى» الحياة كوحدة مترابطة في أعماله. كما تجد ذلك في «الموت السعيد» حيثُ لا تنفصِلُ حياة الإنسان عن دورة الطبيعة. ويصورُ الكاتب بطل روايته باتريس في طقوس مختلفة وردود أفعاله لما يعيش فيه من أوضاع مُتباينة. يشتغل باتريس موظفاً في غرفة التجارة يقضي أوقات فراغه بالمقاهي ومشاهدة الأفلام السينمائية، لا يوجد فرق كبير بين بطل الغريب وبطل «الموت السعيد» إضافة إلى التشابه في الاسم فإن تصرفاتهما مُتقاربة. ميرسو باتريس عبثي أيضاً مثل مرسو في رواية "الغريب" كما يتورط الاثنان في جريمة القتل. ويعيش كل منهما وحيداً بعد رحيل الأُم. وبيوم واحد عقب موت الأم يعلق بياتريس إعلاناً لإيجار جزء من شقته غير أنَّ الراوي يَنقلُ لك صورة أخرى لباتريس مغايرة لسلوكه العبثي، إذ يُشخص ما يعتمل من الشعور بالفراغ واختلال في الحياة اليومية لدى باتريس إذ يقارنُ بين حالة الفقر عندما يعيشها مع أمه وحالة الفقر بعد غياب الأم. في الأولى كانت للفقر نكهة عذوبة أما في الثانية فيصبح الفقر أشدُ بؤساً كأنه ينفرد بفريسته. هنا يستعيد الراوي تفاصيل الحياة اليومية ويكشف ما يضفيه وجود الأم من الحميمية إلى أشياء بسيطة. يفتتح الكاتبُ العمل بحادث مقتل زغرو على يد مرسو من دون أن يتم الكشف عن ملابسات هذا الأمر. زد على ذلك، فإن الظروف والخلفية التي تجمع الاثنين زغرو ومرسو تظل مجهولةً وتتخلل أحداثا أخرى في بناء الرواية ويتعرف المتلقي على شخصيات جديدة إلى أن تظهر مارت وهي صديقة مرسو. يتمثل دور مارت كحلقة الوصل بين شخصيتين حيث تعترفُ لميرسو بأنَّها كانت عشيقة لزغرو من هنا تتحول جملة من المسائل الحياتية والوجودية مثل السعادة والحياة والموت والانتحار إلى ثيمات أساسية في الرواية. رادة السعادة ينطلق كامو من مفهوم جديد لشرح العلاقة القائمة بين الإنسان والحياة. ويورد ذكر مفهوم إرادة السعادة على لسان شخصية زغرو حيث يتنبى الكاتب تقنية الحوار المطول لعرض رأيين متقابلين. الأول يمثله زغرو الذي صار كسيحا وملازما للفراش واضعا مسدساً؛ لأن الانتحار بالنسبة إليه أحد خياراته. والثاني هو ما يعبر عنه مرسو بسلوكياته العبثية. إذ يتفهم المتلقي بأنَّ زغرو شخصية واقعية ولا يعيش في أوهام كما لا ينكر دور المال في توفير حياة سعيدة للإنسان لكن لا يجد علاقة سببية بين الحالتين امتلاك المال والسعادة. ويعتقدُ بأن العنصر الأساسي في معادلة السعادة هو اكتساب الوقت. ويجب أن يخدم المال أيضا هذا التوجه. زيادة على ذلك يصرح زغرو بأنه لا يريد اختصار حياتهِ ولو حرم من البصر ويديه أيضاً وهذا لا يمنعه من التفكير بالانتحار كأن الحياة والموت متجاوران. وتتخلص فلسفة زغرو للحياة في ثلاث كلمات العمل والألم والحب. هذه الأفكار تأتي متسقة مع ما يسرده الراوي عن انطباع ميرسو لشخصية زغرو إذ يجده محاطاً بالكتب فهو لا يتكلم إلا بعد التفكير، أيضاً تعطي مارت تصوراً عن عشيقها السابق تصف إياه بالمرح والقارىء. وينتهي اللقاء المغلف بغلالة فكرية وفلسفية بين الاثنين ومن ثُم يعود بنا الراوي إلى شقة مرسو حيثُ يأخذ البراميلي باهتمام السارد إذ يصف الأخير بأنّه أصم ونصف أخرس تتركه أُخته وحيدًا عندما يعارض وجود صديقها في الشقة. ومن جديد ينصرف الراوي إلى مرسو وينقلُ خبر قتله لزغرو، ومن هنا تتخذ الأحداث منحى جديداً كما تتغير البنية المكانية حيث ينتقل مرسو إلى براغ. غير أن مرسو لا يتخلى عن سلوكه العبثي. بل يصوره الراوي في أشد حالاته عدميةً. وما يشعر به هو الحنين إلى مدن مليئة بالشمس والنساء. لذلك يعود إلى الجزائر إذ يبدأُ فصلا جديدا من حياة مرسو. وهو يستعيد مضامين كلام زغرو عن إرادة السعادة. الموت في الصومعة بعد عودته إلى الجزائر يؤثث لحياة خاصة به ويختار منزله في الطبيعة بين الأشجار تشاركه في «البيت أمام العالم» مجموعة من صديقاته لكن لا تطول إقامته في هذا المكان، بل يتجه إلى قرية في الضواحي ويصبح وحيداً. وهو عندما يصاب بالمرض يتصور بأن الحياة لا تتغير بغيابه، كما أن لوسيان حبيبته ستكون مصممة على التمتع بأيامها بل تُعطي حنانها ومشاعرها الدافئة لشخص آخر. لا تنظم حبكة متماسكة بناء هذا العمل الروائي حتى الجريمة التي يرتكبها مرسو لا يتحول إلى خيط يجمع أجزاء الرواية. ولعلك تجد تفسير ذلك الأمر في الموضوع الذي تدور عليه الرواية إذ تهيمن أسئلة وجودية على مساحة هذا العمل. فالرسالة التي أراد الكاتب أن يوصلها هي أن الموت لا يبرر الهروب من الحياة، فبذلك يخالف كامو، أفلاطون، فالأخير يقول إن الحياة تأمل في الموت بينما الحياة لدى بطل كامو هي بحث عن السعادة في اليقظات الصباحية حتى لو تكرر هذا البحث بصورته السيزيفية فعليك أن لا تتوقف... هذا ما تفهمه من رواية "الموت السعيد".
مشاركة :