عندما تقرأ تصنيفا قبل مشاهدة فيلم ما يختص بالعمر المسموح به أو حتى توصية معينة بعدم متابعته من ذوي القلوب الضعيفة، فإن هذه الأعمال السينمائية غالبا ما تتعلق بمحتوى عنيف أو جنسي أو تتضمن ألفاظا نابية جدا أو ترويجا للمخدرات، لكن أن تكون هناك نصيحة بعدم المشاهدة لأصحاب المعدة الحساسة فتلك إثارة واستفزاز يعقبهما عقاب وألم وغثيان أيضا، وهذا ما طالني من متابعة الفيلم الاسباني "ذا بلاتفورم" أو (المنصة). خرج الفيلم الذي أنتجته نتفليكس في العام 2019 في عرض خاص بمهرجان تورونتو السينمائي الدولي وحصد جائزتين منه، ثم بدأ بثه على منصة البث التدفقي الأشهر في العالم في مارس/آذار 2020، والمفارقة المدهشة أنه أول فيلم لمخرجه الاسباني غالدر غازتلو أوروتيا، وغالبية ممثليه ليسوا معروفين بالنسبة لنا، لكنه من ضمن الأفلام النادرة التي تشدك منذ أول مشهد وتطرح عليك السؤال تلو الآخر. يروي الفيلم الذي لا يروقني فعلا تصنيفه خيالا علميا، قصة الشاب المثفف غورينغ (الممثل إيفان ماساغوي) الذي تطوع لدخول السجن للإقلاع عن التدخين وقراءة كتاب حيث يُسمح للجميع بإدخال شيء واحد فقط، والسجن عبارة عن حفرة طولية تتألف من 333 مستوى، ويتسع كل واحد منها لسجينين فقط. بمجرد أن يبدأ المشهد الأول يشرح الزميل المسن تريماغاسي (الممثل زوريون إيغويلور) لغورينغ نظام الزنزانة، إذ أن منصة أو مائدة كبيرة تحتوي على مشروبات وحلوى وطعام من كل الأنواع، تنزل بشكل طولي على كل المستويات بدءا من الأول وحتى الأخير، لمدة دقيقتين فقط إذ يتعين على النزلاء تناول الطعام بسرعة قبل أن تهبط للمستوى الأقل، لكن الجزء الأكثر شرا في هذا النظام، هو أن النزلاء يغيرون طوابقهم كل شهر، وإذا كنت تتساءل كيف يعيش هؤلاء الأشخاص عندما يكونون في الطوابق السفلية، فقد لا تكون مستعدا للفكرة المروعة التي يذهب إليها هذا الفيلم. وصفة وحشية فكرة الفيلم ذكية بلا شك، فكل يوم تنزل منصة عبر حفرة كبيرة في منتصف المبنى، وهي الفرصة الوحيدة لتناول الطعام طوال اليوم، ففي المستوى الأول مثلا، يمكن للسجناء الحصول على وليمة من الأطباق المحضرة بعناية ووفرة ومحبة، وإذا أكل الجميع حصة صغيرة فقط، يمكن أن يبقى على المائدة طعام لكل سجين في المستويات الدنيا، لكن هذا لا يحدث أبدا. والمفهوم الاجتماعي الذي يرمي إليه الفيلم واضح أيضا فإذا لم يأخذ الأغنياء الذي يمثلون في القصة نزلاء طوابق الزنزانة العليا، أكثر مما يحتاجون، فسيكون هناك ما يكفي للفقراء. يلقي الفيلم الضوء على سلوكيات البشر سواء كانوا في الطوابق العليا أو في الأسفل فالأشخاص الذين كانوا في المستويات الأدنى من قبل ولكنهم الآن محظوظون بما يكفي ويأكلون قبل نزلاء الحفرة الأدنى، بدلا من أن يتعاطفوا مع من أصبحوا في مكانهم، يبدو أنهم يأخذون المزيد، ويعوضون الوقت الضائع ويدركون أنهم قد لا يعودون إلى هذه الطوابق الأولى مرة أخرى. بجانب أن "المنصة" يعد مرآة لسلوك البشر القاتم فهو أيضا فيلم رعب شنيع أو لا أبالغ إن وصفته بالوحشي، تغمره الدماء بشكل مفاجئ فيعكس كيف يعمل المجتمع (أو يفشل في القيام بذلك) في مواجهة واحدة من أكثر أزمات التاريخ تدميرا وأقصد المجاعات وانتشار الأوبئة. فالجميع في الفيلم يفتقدون التعاطف البشري لأنهم يخوضون معركة من أجل البقاء على قيد الحياة ولا يمكنهم تحمّل التضامن مع الآخر لأنهم لا يملكون حتى أي شيء يأكلونه، كل هذا فعلا فعلا يعكس روح العصر الذي نعيش فيه حاليا. ينتقل غورينغ بين الطوابق فتارة يحظى بطعام وأخرى يهبط به الحظ إلى أسفل الزنزانة فيضطر إلى قتل زميله المسن الذي كان ينوي أن يقطع من لحمه ليبقى على قيد الحياة، ويختتم الفيلم بتعاون غورينغ مع زميل جديد في الزنزانة باهارات (الممثل إميليو بوالي) لركوب المنصة من الطابق السادس لضمان حصول كل شخص في الأسفل على جزء من الطعام. ووصلا في النهاية إلى زنزانة رقم 333 حيث توقفت المنصة ولم يعد هناك أحد على قيد الحياة، وبينما يستعد غورينغ وبهارات للعودة إلى الأعلى مع طبق من الحلوى الذي حافظا عليه طيلة هبوطهما إلى الزنازين ليكون "رسالة" لإدارة السجن بأن التضامن موجودا بين المساجين، اكتشفا طفلة تختبئ تحت أحد الأسرة في آخر طابق على الرغم من أن قوانين هذا المكان القاتم لا تسمح بحجز الأطفال. يصر غورينغ على منح الطفلة التي تتضور جوعا طبق الحلوى "الرسالة"، ثم يقرر الاثنان أن الفتاة هي "الرسالة"، يموت بهارات متأثراً بجراحه، لكن غورينغ يستعد لركوب المنصة مرة أخرى مع الطفلة، ولكن بعد ذلك يظهر شبح رفيقه الأول في الزنزانة العجوز تريماغاسي ويخبره أن رحلته قد انتهت و"الرسالة لا تتطلب حاملًا"، ثم نرى الفتاة النائمة وهي تركب المنصة وهنا ينتهي الفيلم. الأمر متروك لنا تترك هذه النهاية المجازية عند المشاهد قدرا كبيرا من الأسئلة مثل: هل سيتم استلام الرسالة؟ وهل ولدت الطفلة في المنشأة؟ يجيب مخرج الفيلم في إحدى مقابلاته إن هذه الأسئلة يجب أن يجيب عنها المجتمع، مضيفا أن "الأمر متروك لنا جميعا، يعتمد على ما إذا كنا نريد أن نظل أكثر الكائنات بؤسا التي وطأت قدما على هذا الكوكب". يعد وجود الطفلة من وجهة نظري استعارة مجازية لمرونة الإنسان حتى في أسوأ الأوقات وأكثرها صعوبة، ويدفع أيضا الفكرة القائلة بأن التغيير الحقيقي فقط يمكن أن يأتي من خلال الشباب. وربما يفسر الكثير من المشاهدين الفيلم على أنه استعارة للرأسمالية والنظام الطبقي، لكن ما يعنيني في رمزية القصة أنها تعكس بشاعة البشر أغنياء وفقراء في أحلك الظروف التي من المفروض أن تملي عليهم مشاعر التضامن والتعاطف. فنحن نعيش في عالم تتكوم فيه معظم الثروات في أيدي مجموعة مختارة، تماما مثل الطعام المتاح في الفيلم، وإذا كان بإمكانك الوصول إلى كل هذا الطعام، فهل ستأكل ما تحتاجه فقط؟ وكيف عليك إدارة خوفك من فقدان تلك الثروة في المستقبل القريب من خلال الانتقال إلى طابق لا أكل فيه؟ بصمة كورونا من مفارقات الفيلم الذي تمت صناعته قبل انتشار وباء فيروس كورونا أن أحداثه تتقارب مع ما حدث في غالبية المجتمعات حيث ساد الرعب والذعر وسارع الناس إلى المتاجر لشراء وتكديس المواد الغذائية وغيرها بشكل جنوني غير عابئين بالآخرين. وهناك أوجه تشابه أخرى اكسبت الفيلم صدى واسعا في أعقاب وباء كورونا فالمساجين الذين كانوا يحظون بمأدبة كبيرة في "المنصة" هم على الأرجح نفس الأشخاص الذين يمكنهم شراء جهاز التنفس الصناعي، أو يتمتعون بصحة أفضل لأنهم يتمتعون بالرعاية الصحية الجيدة، إضافة إلى أن الأغنياء أو الأشخاص الذين لديهم وظائف، يتمتعون برعاية صحية وبالتالي لديهم فرصة أفضل للنجاة من هذا الوباء، باختصار البقاء على قيد الحياة يتعلق بمن يملك ومن لا يملك فقط. في "المنصة" لجأ نزلاء الطوابق السفلى من السجن إلى العنف والقتل في محاولة للحصول على المزيد من الطعام، مع أن هناك ما يكفي من الطعام لإرضاء جميع السجناء لو أنهم تضامنوا معا، لكن الأشخاص في الطوابق العليا (أي الأثرياء) يفرطون في الأكل ولا يتركون شيئا أو يبدون رغبة في المشاركة. يضع الفيلم المشاهدين على حافة الهاوية من بدايته حتى نهايته، الأمل الوحيد نلمحه قادما من خلال غورينغ الذي لا يزال لديه إيمان بالإنسانية ويكافح ضد رعب الجسد والبؤس المطلق والاستسلام، صحيح أنه في طريقه لمساعدة الآخرين، تلطخت يديه بالدماء لكن في بعض الأحيان عليك للقيام بأشياء من أجل الصالح العام أن تنفصل عن مُثُلك العليا، ورغم أنه لم يخرج من الحفرة، إلا أنه ساعد في دفع الطفلة التي أفترض أنه انتهى بها الأمر للخروج. هذه النهاية تُخرج الفيلم من عالم الأفلام الفانتازية إلى تجربة فكرية أخلاقية واضحة وذات مغزى تقود إلى النقاش حول المسؤولية الاجتماعية للأفراد وضرورة تخلصهم من الأنانية والجشع. وعلى الرغم من أن الفيلم إسباني إلا أنه يبدو ذا صلة بالحاضر الأميركي بالتحديد والحروب االمستمرة بين حفنة من المليارديرات الذين يحاولون تعزيز سلطتهم بينما سكان الأرض جميعا عالقون في الزنازين تحتهم، متشبثين بأي شيء يسقط من فوق، فالفيلم في جوهره يحمل رسالة غير عادلة مفادها أن كل شخص في العالم لديه آخر فوقه وآخر تحته. المشاهد الوحشية والمنحطة أيضا في الفيلم على قلتها إلا أنها تحفر في العقل وتثير الغثيان، فمن أكل لحوم البشر إلى منظر الديدان تخرج من الجثث التي يقتطع منها الجائعون ليسدوا رمقهم، إلى البصق على الطعام من قبل نزلاء الطبقات العليا قبل أن تنزل المائدة، إلى الاغتصاب وتغوط امرأة في وجه رجل يحاول الصعود إلى الأعلى وتبول رجل على الناس في المستويات الدنيا، إضافة إلى الانتحار، وحتى المشهد الجنسي الوحيد في الفيلم جاء بطريقة مقززة كما لو كان وليمة لجياع يتناثر الطعام من أفواههم، كل هذا في واقع ديستوبي كان يلح علي أن أوهم نفسي أنني في خضم فيلم! رغم كل التشابه الجهمني بين الواقع والحفرة القاتمة.
مشاركة :