عندما تستمع إلى الأستاذ الجامعي فؤاد شهاب وهو يتحدث عن ابنته مريم، فإنك ستغرق في بحر متلاطم من الحب والهيام الذي ينساب من بين كلماته. فرغم مرور 25 عاماً على «قصة مريم» التي «أنسنت أباها» كما يعبر شهاب، إلا أن رنين كلماته يشعرك وكأن حبر الأحداث لم يجف بعد. مريم التي نقلها حب أبيها من عالم «الصم» إلى عالم السمع والكلام، قصةٌ شخصية عجيبة أرخها فؤاد شهاب في كتابه «حبيبتي ابنتي سميتها مريم» والذي دُشن مؤخراً، لتخرس لسان المستحيل، وتصرخ في وجه الصمم أن «لا يأس مع حبٍّ غير مشروط» كما يقول شهاب بنفسه. «الوسط» التقت الأستاذ الجامعي فؤاد شهاب والد مريم، للإضاءة على التجربة التي مر بها مع ابنته، فكان الحوار التالي: لعل السؤال الأول الذي يتراود من هي مريم التي عنونت الكتاب باسمها؟ - مريم هي ابنتي البكر التي ولدت في العام 1988 وكنت كلي شوقا لرؤيتها، وخصوصاً أنني قد تزوجت في سنٍ متأخرة بالنسبة لمجتمعنا البحريني، إذ كان ذلك بعدما وصلت إلى سن الـ33. والحقيقة أنني لم أكن الوحيد الذي انتظر مريم بل الأسرة بالكامل، فأنا متزوج من ابنة عمي، وبالتالي فإن ولادة مريم كانت محطة سعادة وشوق وترقب لبيت العائلة أجمع. وماذا جرى حتى صارت مريم محور هذا الكتاب؟ - الذي جرى، أن مريم ولدت وهي مصابة بإعاقة سمعية شديدة تمنعها من السماع أو التحدث، وهذا ما اكتشفناه لاحقاً، وغير مجرى حياتنا جميعا. القصة أنني كنت كأي أبٍ ينتظر ببالغ الشوق واللهفة سماع الكلمة الأولى من ابنته، كنت انتظر من مريم أن تنطق كلمة «بابا»، لكن عندما تأخرت مريم في نطقها ووصلت إلى شهرها الثامن ولم تبدأ بمحاولة الكلام، شعرت بالقلق من أن تكون مصابة بشيء ما، وبدأت أزور الأطباء الذين كانوا يؤكدون عدم إصابتها بأي شيء، ذلك لأنهم كانوا يستخدمون أدوات بدائية في التشخيص كالرنين باستخدام المفاتيح أو الشوكة الرنانة. كان الاطمئنان يمسح قلقي كلما أكد طبيب لي أن مريم بخير ولا تعاني من أي شيء، وكأنني كغريقٍ يريد أن يتعلق بأي قشة تنقذه، لكن هذا الاطمئنان سرعان ما يتلاشى كلما تقدمت الأيام ومريم لا تزال عاجزة عن الكلام. قلت إن مريم ولدت بإعاقة سمعية شديدة، فكيف صعب على الأطباء اكتشافها؟ - العجيب أن مريم كانت تسمع بعينيها وهو ما جعل الأطباء غير قادرين على اكتشاف اعاقتها رغم شدتها، كما إننا نتحدث عن العام 1990م، والتقنيات الطبية ليس كما هي الآن؟ وكيف كانت تسمع بعينيها؟ - ذكرت لك سلفاً أن الأطباء كانوا يعتمدون على اختبار حاسة السمع من خلال الوقوف خلفها والرنين لها بحزمة مفاتيح أو شوكة رنانة، ومريم حينها كانت تلتفت للصوت وهو ما اعتبره الأطباء دليل على فاعلية السمع لديها. بينما الحقيقة التي اكتشفتها لاحقاً أن المصاب بالإعاقة السمعية لديه قدرة أكبر على لمح ما خلفه، والالتفات إليه، وعليه فإن الالتفاتات التي كانت تبديها مريم لم تكن بحاسة السمع إنما بحاسة النظر. ومتى اكتشفتم إصابتها بهذه الإعاقة؟ - في العام 1990 عرضت ابنتي على أحد المستشفيات في المملكة العربية السعودية وكان هنالك جهاز متطور قادر على كشف الإعاقات السمعية إن وجدت، وهنالك حدثت الصدمة بعد أن أحال الطبيب شكوكنا إلى اليقين بأن مريم لا تسمع لأنها مصابة بإعاقة سمعية شديد. عذراً إذا نكأنا آلامك مرة أخرى، لكن كيف شعرت حينها؟ - أحسست بالصدمة التي يسميها علماء النفس بصدمة التشخيص. وكم استمرت هذه الصدمة معك؟ - دعني أخبرك إن صدمة التشخيص تأخذ من البعض أشهر أو سنوات والبعض لا يخرج منها. لكن وهذا ما اعتبره معجزة ربانية إنها لم تأخذ معي سوى نصف ساعة. نصف ساعة فقط؟ - نعم، ولازلت أتذكر الموقف جيداً. عندما رجعنا إلى المنزل جلست مقابلاً لمريم وأنا استوعب الصدمة، ثم بعد نصف ساعة نظرت في وجه ابنتي وقلت إن هذا الجمال وهذه البراءة لا بد لها أن تتكلم. كيف لا أعرف؟. ومن تلك اللحظة أخذت على عاتقي البحث في كل مكان عن طريقة تجعل من ابنتي تتحدث. وكيف كانت الانطلاقة؟ - قبل الإجابة عن هذا السؤال، أردت أن أضيف أن علماء النفس يقولون بأنه عندما يخبر الطبيب والوالدين عن عدم قدرة ابنهما على الكلام كأنه أبلغهما بوفاته، لذلك كانت المهمة وكأنما أن تعاد مريم إلى الحياة مرةً أخرى. بعد أشهر قليلة من معرفتنا بإصابة مريم، قررنا أخذها إلى طبيب بريطاني في منطقة «مانشيستر» بناء على نصح بعض الأصدقاء، وفعلاً أكد لنا الطبيب البريطاني إصابتها، لكنه في الوقت نفسه أعطانا المفتاح الأول لعلاج حالتها، حينما قال إن مريم تتميز بذكاء حاد، وإنه بالإمكان علاجها وإدماجها في المجتمع بشكل طبيعي إذا ما عملنا معها سوياً. وهل بدأت المشوار محلياً أم بقيت في الخارج؟ - لا، رجعت إلى البحرين، وبدأت أزور المعاهد المختصة بذوي الإعاقة السمعية، وصدقني إن زوجتي لم تبكِ يوم علمت باصابة ابنتنا بمقدار بكائها عندما زرنا هذه المعاهد، لأنها بعد أن شاهدت الأطفال هنالك وطريقة تأهيلهم كانت تقول هل ستصبح مريم مثل هؤلاء؟ إذن، ماذا فعلتم بعدها؟ - بدأت أراسل المراكز حول العالم، وعلمت أن مصر بها مراكز متخصصة أفضل من البحرين. حزمنا حقائبنا ومضينا إليها وقد أرخت لذلك بالكتاب في فصل كامل تحت عنوان سلامٌ لكِ يا مِصر. لكن مع شديد الأسف أيضاً وجدنا مراكز اسمها أكبر من المضمون الذي تقدمه، غير أن الله عزوجل هيأ الأسباب عندما سمعنا باسم طبيب حاذق يعلم الكلام ويعالج مشاكل النطق والسمع. وأود أن أشير إلى أن زوجتي بقيت مع مريم في مصر، بينما كنت أنا أتردد عليهم بين الحين والآخر، هذا وبعد 6 أشهر من العلاج حدثت المفاجأة. ماذا حدث؟ - نطقت مريم ولأول مرة، وهاتفتني أمها وأسمعتني صوتها وهي تقول بابا. حينها. كيف كان شعورك؟ - لا يوصف. كمن مات ولده ثم عاد حياً. شوقتنا لمعرفة بقية القصة أكثر. - نعم ثم تطورت مريم وقامت تنطق كلمات أكثر وأكثر. وكانت كلما نطقت بكلمة جديدة يمازجني الفرح، وهذا الفرح موجود عندي حتى الآن، فكلما تكلمت مريم شعرت أن كلماتها تراقصني. الآن وأنا انظر إلى ابنتي دائما ما أقول معقول أن تكون هذه البنت التي حكم عليها بعد الكلام مصدر إلهام وحب ورحمة لي. ثم ماذا جرى؟ - حينها قررت أن أنقل التجربة من الإطار الخاص إلى العام، وأساهم في حل مشاكل الآخرين المشابهة. وماذا كانت خطوتكم الأولى في هذا المجال؟ - باعتباري عضو مؤسس في جمعية البحرين لتنمية الطفولة، اقترحت على أعضاء الإدارة حينها إنشاء مركز لتنمية السمع والنطق، وكنت أعلم حينها أن التكلفة باهضة جداً، لكن قلت للإخوة أن سماع أبٍ أو أم لابنهما يتحدث بعد طول انتظار تعادل مئات آلاف الدنانير، وفعلاً بعد ذلك أنشأنا مركز الأمير سلطان بن عبدالعزيز لتنمية السمع والنطق. واستطيع القول بعد 20 عاماً من تولي رئاسة المركز إنه أصبح رئتي التي أتنفس بها. نفهم ذلك أن المركز قادر على علاج حالات الإعاقة؟ - قطعاً وبشكل مجاني. نحن اليوم لدينا أطفال يتحدثون أكثر من لغة بطلاقة وسلاسة، مع التنبيه أنه كلما اكتشفت الاعاقة مبكراً كلما كان أفضل للعلاج. عوداً على تجربتكم دكتور. لماذا الآن فقط أصدرت الكتاب؟ لماذا انتظرت طويلاً؟ - سؤال مهم جداً. الكثير من الأصدقاء والمثقفين كانوا يلحون علي بضرورة نقل هذه التجربة وتدوينها، ولكن وبصراحة تامة كنت انتظر اكتمال الصورة لأشرع في ذلك. ماذا تعني باكتمال الصورة؟ - هذا فصلته في الكتاب، ولكن بايجاز، خشيت أن أكتب الكتاب قبل هذا اليوم، فيسألني البعض أين مريم اليوم، كيف صارت؟. فأقول لهم إنها درست وانهت الجامعة بتفوق وتوظفت، فلربما يسألوني، هل تزوجت؟. فأجيب بالنفي. فيكون ذلك ماحياً لكل ما قبله. وللأسف هذه نظرة مجتمعية نواجهها. لذلك قررت حتى أن تزوجت مريم، حتى تكون كل فصول قصتها مكتملة، ثم أخرجت هذا الكتاب. إذن، نحن نسألك دكتور. من هي مريم اليوم؟ - مريم اليوم هي أم لبنت اسمتها ياسمين، وهي موظفة في أحد البنوك المحلية، كما وهو الأهم هي مريم التي أنسنتني وأخرجت أفضل ماعندي، وأنا سأقول لك كلمة ومتأكد أن اخوتها سيقرأونها ولكن فليعذروني عليها، إن مريم إذا جلست فإني لا أرى سواها. مريم. هل لاتزال البنت الوحيدة لديك؟ - كلا، مريم هي أولى بناتي، ولدي ولد يصغرها اسمه صلاح، ثم ريم ومرام، اشتققنا اسميهما من اسم مريم، فهي التي كانت تقول بابا لا أريد أن أكبر وحيدة أريد أخوة وأخوات لي، فمريم تبادل الجميع حباً بحب. سؤالي الأخير عن حفل تدشين الكتاب. كيف وجدت أصداء الحفل؟ - متميزة جداً. كنا نقدر أن الحضور إذا بلغ الـ50 فذلك يعتبر انجازاً، لكن تفاجأت أن الحضور فاق الـ400، حيث غصت الصالة بمن حضر واضطر البعض للوقوف في جنباتها. ولايزال الأصدقاء وبعض الكتاب يواصلون الكتابة عن الكتابة وحفل التدشين. بينما أنا أقول إن مريم والكتاب هما اللذان أعطياني رسالة إنسانية وأخرجاني إلى الإعلام لأبلغها، فلو كنت مجرد أستاذ جامعي لما نلت هذا الاهتمام، لكن مريم وتجربتها هما اللذان جعلاني أحضر هنا وفي التلفزيون وفي محافل أخرى.
مشاركة :