على نهر النيل الأزرق في إثيوبيا، تجري أعمال البناء على قدم وساق ضمن مشروع يتمتع بخصائص عملاقة فيزيائياً وحساسة سياسياً. إنه سدّ النهضة الذي يطرح سؤالاً اختبارياً بوصول أعمال البناء إلى منتصف الطريق مفاده: في ظل اكتساب المياه أهمية كبرى تكفل اندلاع حرب ونزاعات حولها، هل يمكن للدول إيجاد سبل لاقتسامها سلمياً؟ تسير الأمور بشكل جيد حتى الآن، مع اتجاه المشروع نحو مرحلة الإنجاز، وفي ظل صدور إعلان مصري سوداني اثيوبي مشترك يتعهد بالتعاون وعدم التسبب بأذى بالغ يلحق بدول المصب. ويحتل هذا الإعلان أهمية جوهرية، نظراً لأن السدّ سيسيطر على ثلثي مياه النهر، الذي تعتمد مصر عليه بشكل أساسي. إلا أن التعاون يكتسب جدواه بإجراء الدول الثلاث المعنية تحليلاً تقنياً جدياً للأمور، حيث ان سوء تقدير بعض المسائل، كتغير منسوب هطول الأمطار السنوية أو الحدّ الأدنى لتدفق المياه المسؤولة عن الحفاظ على نوعية الانسياب على طول مجرى النيل، قد يقوض أسس أي اتفاقية، ويؤدي بالتالي إلى نزاعات لا تحمد عقباها. من الواضح أن توقيع اتفاق تعاون بين إثيوبيا والسودان ومصر ضرورة لا بد منها لتفادي النزاع والتسبب بالأذى على طول مجرى النهر، ويتضمن ذلك الاتفاق حول النقاط التي تتسبب بأذى بالغ، سيما أن مصر أبدت في الماضي استعداداً لخوض الحرب دفاعاً عن مواردها المائية. وهي تتلقى اليوم فعلياً ما يقارب 60 مليار متر مكعب من المياه سنوياً. وتعتبر الدول الثلاث المعنية بالاتفاق مستفيدة من التعاون فيما بينها، إذ ان سعة السدّ الهائلة قد تساعد كلاً من السودان ومصر خلال فترات الجفاف، وإذا وافقت مصر على شراء الطاقة الكهربائية المولّدة من مياه السدّ، فستستفيد إثيوبيا اقتصادياً من مخزون المياه المتدفق تلقائياً، سيما أن الأمطار الموسمية في إثيوبيا التي ستغذي السد الجديد تهطل على امتداد ثلاثة أشهر بشكل أساسي، لذا فإن تخزين المياه يتيح للسد تعديل وتسهيل تدفق مياه النيل، على طول 900 ميل. كما سيولد كميات هائلة من الطاقة، يساعد بيعها إثيوبياً على تمويل مسيرة نموها الضرورية، شرط إقامة خطوط الإمداد. ومن هنا تتولد أهمية المسائل التقنية، وقام معمل عبد اللطيف جميل للأمن المائي والغذائي العالمي بجمع الخبراء للبحث في مسألة الموارد المائية لحوض النيل، فأشاروا إلى أن إدارة نظام النهر متعدد السدود تتطلب مستوى معقداً من الإدارة المشتركة، مع قاعدة معلومات مشتركة وإطار عمل نموذجي علمي. وتتطلب المفاوضات الصعبة المنتظرة للتوصل إلى اتفاقيات مفصلة حول مسائل تتعلق بسياسة إدارة مخزون المياه، وتجارة الطاقة، وسلامة السدّ، وممارسات الري، بأن تتمتع السياسة الخارجية وخبراء المياه من كل من الدول الثلاث بفهم مشترك للمسائل التقنية وتبدي استعداداً للتسوية. في مايو 2015، استعانت الدول الثلاث بمستشارين تقنيين للمساعدة في حلّ تلك المشكلات، إلا أن ذاك التدبير قد فشل، بسبب تباينات في الرأي حول إدارة المشروع. واقتضى ذلك مساعدة المجتمع الدولي من خلال الدعم الذي أبداه للجهود الإقليمية، من أمثال مبادرة حوض النيل، من أجل التأسيس لفهم وتنسيق هندسي علمي يجمع الدول المعنية الثلاث، وتأمين الخبرات الحيادية، ووضع برنامج إدارة وربما آلية معينة لحلّ النزاعات. العالم اليوم بحاجة للتفاهم بشكل جيد حول مسألة تقاسم المياه، وعلى نحو فوري، وإلا فالبديل عن ذلك سيكون صراعات إقليمية متكررة، لا تحمد عقباها. تعقيدات من المعروف أن منسوب مياه النيل خاضع لتغيرات مناخية، وتغدو المخاطر أكبر اليوم مع تزايد عدد سكان مصر الذي بلغ 90 مليون نسمة، وعلى الرغم من وجود بعض السدود التي تساعد على التخفيف من حدة التغيرات، إلا أن بناء سدٍّ آخر ضخم ذي خزان عند أعلى مجرى النهر سيزيد الأمور تعقيداً.
مشاركة :