سؤال خطير وصعب يطرحه كل إنسان يعيش على سطح الأرض منذ ديسمبر 2019، وهو من أين جاء فيروس كورونا العصيب، وما هو مصدره؟ وصعوبة الإجابة عن هذا السؤال لا تأتي في أنه سؤال علمي وفني بحت ومعقد، وإنما يكمن السبب في أن لهذا السؤال تداعيات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية عظيمة تنعكس على الصين بشكلٍ خاص، وعلى العالم بشكلٍ عام. فالإجابة عن هذا السؤال ستوجه أصابع الاتهام والمسؤولية إلى الدولة التي جاء منها هذا الوباء العقيم، والتي ترعرع فيها هذا الفيروس القاتل وانتشر منها إلى كل بقعةٍ صغيرة وكبيرة من كوكبنا، وإلى كل أسرة في العالم أجمع، فهذه الدولة ستُلقَى عليها مسؤولية موت أكثر من 3.6 ملايين إنسان حول الأرض، وإصابة قرابة 169 مليونا بهذا المرض العضال، وهذه الدولة ستُحاسب من قبل المجتمع الدولي على تسببها في نزول هذا الكرب العظيم على البشرية جمعاء، وهذه الدولة ستتشوه سمعتها ومنزلتها ومكانتها بين الدول، وقد يُطلب منها تعويضات اقتصادية لجميع الدول التي تضررت من هذه الطامة الكبرى. ولذلك فالإجابة لن تكون سهلة، وقد تكون في تقديري مستحيلة، فالدولة المعنية بالفيروس والمتهمة حتى الأن هي الصين، وهي دولة عظيمة وكبيرة، وذات نفوذ دولي سياسي واقتصادي يعرفه الجميع، وقد قامت منذ أن انتشرت رائحة هذا الفيروس رسميًا في نوفمبر 2019، بكسب الوقت وعمل كل ما يلزم لإخفاء أي أدلة، إن وجدت، حول مصدر الفيروس ومسقط رأسه، والتي قد تؤدي إلى توجيه أصابع الاتهام إليها، وهي في الوقت نفسه عطَّلت لأشهر طويلة السماح للجنة التحقيق الدولية الثانية التابعة لمنظمة الصحة العالمية بالدخول إلى الصين من أجل الترتيب لأوراقها الداخلية والتمهيد للزيارة. فمن خلال متابعاتي الحثيثة، واطلاعي على التقارير والأبحاث العلمية المتعلقة بهذا السؤال، فإن النظرية السائدة حتى يومنا هذا والتي يؤمن بها الكثير من العلماء، ولكن من دون دليل وإجماع علمي دامغ، تتفق مع الرأي الصيني الرسمي الحكومي، وهي أن الفيروس نزل على البشر من مصادر طبيعية، أي من الخفاش، أو حيوان آخر وسيط وانتقل إلى الإنسان، وقد يكون مصدره الأول هو سوق ووهان للمأكولات البحرية والحيوانات البرية، أو من مزارع أخرى للحيوانات في الصين خارج مدينة ووهان، أو من لحوم مجمدة ملوثة حيويًا جاءت من مصادر غير معروفة. كما أن استنتاجات فرق التحقيق الدولية والتابعة لمنظمة الصحة العالمية، وبالتحديد فريق التحقيق الثاني، أكدت في مارس 2021 أن الفيروس جاء بشكلٍ طبيعي، وأن احتمال تسربه من أحد المختبرات، وبالتحديد من مختبر ووهان للفيروسات (Wuhan Institute of Virology) «مستبعد جدًا». علمًا بأن منظمة الصحة العالمية نفسها في أبريل 2021، أشارت وباستحياء وبرفق شديدين إلى وجود استفسارات وأسئلة لم تتم الإجابة عنها، كما صرح بذلك مدير عامة المنظمة الذي أفاد بأن هناك حاجة للمزيد من الدراسة والتحقيق حول فرضية التسرب الفيروسي، حيث قال: «كل النظريات ستظل قائمة وتحتاج إلى دراسات أخرى». ولكن هذه الفرضية الصينية الرسمية، وربما لأسباب سياسية، أو غير سياسية وموضوعية بحثًا عن الحقيقة، قد شكك البعض في مصداقيتها، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى وبعض الباحثين. فأول من رفضها كليًا وبصراحة هو الرئيس السابق ترامب، حيث أشار في الثلاثين من أبريل 2020 أثناء حديثه مع الصحفيين إلى احتمالية نظرية تسرب الفيروس من المختبر، وقال بأنها تبدو منطقية ومعقولة، ولكن لم يقدم أي أدلة تثبت هذه النظرية. كذلك في الثالث من مايو 2020 أكد وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو في مقابلة مع الشبكة التلفزيونية الإخبارية أي بي سي أن هناك أدلة كثيرة، ولكن أيضًا من دون تقديم أي منها تفيد بفشل تشغيل المختبرات في الصين وتسرب الفيروس منها، حيث قال إن: «لديه أدلة كثيرة تُثبت أن الفيروس نتج في المختبر». وفي 15 يناير 2021 قبيل خروج ترامب من البيت الأبيض بخمسة أيام، نشرت وزارة الخارجية نشرة معلوماتية تفيد بأن الحكومة الأمريكية تعتقد أن العديد من الباحثين في مختبر ووهان قد أصابهم المرض في خريف 2019، أي قبل نشر خبر انتشار المرض من الصين، كما أكد هذه الادعاءات التقرير المنشور في مجلة «الوول ستريت» في 25 مايو 2021 حول إصابة بعض العلماء من مختبر ووهان بأعراض مرضية تشبه مرض كورونا، أو مرض الإنفلونزا الموسمي المعروف في نوفمبر 2019، أي قبل الإعلان الصيني الرسمي عن أول حالة لمرض كوفيد-19 في الثامن من ديسمبر 2019. واليوم يأتي بايدن ليحيي هذه النظرية من جديد، ولكن من دون توجيه الاتهام الرسمي ضد الصين، حيث إنه أمر في 26 مايو الأجهزة والوكالات الاستخباراتية التي يبلغ عددها 18 وكالة، قائلاً: «منذ اليوم، بَحَث مجتمع الاستخبارات الأمريكية في نظريتين، ولكن لم يصل إلى استنتاج دامغ حول هذا السؤال. لقد أمرتُ مجتمع الاستخبارات بمضاعفة الجهود لجمع وتحليل المعلومات التي تُقربنا إلى الوصول إلى استنتاج أكيد، وتقديم التقرير خلال 90 يومًا». والجدير بالذكر أن وكالات الاستخبارات الأمريكية لا تجتمع على رأي واحد ونظرية واحدة حول مصدر الفيروس، فمنهم من يقول بأن الفيروس طبيعي وانتقل من الحيوان إلى الإنسان، ومنهم من يفيد باحتمالية التسرب عن طريق الخطأ من مختبر في الصين، ولذلك جاءت توجيهات بايدن بالتعاون مع بعض وتنسيق الجهود للوصول إلى إجماع في الرؤية حول مصدر الفيروس. كما أن فرضيات أمريكا ودعوتها لتحقيق دولي مستقل لاقت آذانًا صاغية من عدة جهات، فقد دعت جمعية الصحة العالمية (World Health Assembly) في اجتماعها السنوي في مايو من العام الجاري إلى النظر بجدية أكثر إلى هذه الادعاءات والتحقيق فيها، كما وجهت إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية ثالثة، كما ركب الموجة مجموعة من العلماء حول العالم ودعوا إلى التحقيق في نظرية التسرب المخبري بحجة تجنب وباء فيروسي آخر في المستقبل والتعرف عن كثب على كافة المعلومات الغامضة عن الفيروس ومصدره، بحسب ما ورد في مجلة العلوم في مقال تحت عنوان: «التحقيق في أصل كوفيد-19، كذلك فإن صحيفة التايمز البريطانية في الثلاثين من مايو نشرت خبرًا» تحت عنوان: «كوفيد: تَسَربْ مختبر ووهان محتمل، تقول المخابرات البريطانية»، حيث أفادت المخابرات البريطانية بأنه من الممكن أن الوباء مصدره تسرب الفيروس من مختبر للأبحاث في الصين. والآن نبقى جميعًا في حيرةٍ من أمرنا، وفي قلقٍ ومعاناة شديدين، فلا أحد يعرف بالدليل العلمي المستقل والموضوعي القاطع مصدر هذا الفيروس، وفي تقديري ربما من المستحيل معرفة المصدر بدقة ومصداقية، فالسياسة دخلت على خط هذا السؤال المتعلق بالمصدر، وأجهزة الأمن والمخابرات لا يمكن الوثوق بها للإجابة عن هذا السؤال، والنتيجة إذن أن هذا السؤال سيبقى من دون إجابة. bncftpw@batelco.com.bh
مشاركة :