< قلت إن المجتمع هو من كرس ويكرس دونية بعض العلوم والفنون الإنسانية، وأتحدث عن علم النفس، وعلم الاجتماع، والفلسفة، والنقد، وصولاً إلى الإبداع الذي حورب فترة طويلة تحت ذريعة الحداثة وارتباطها بالتغريب، فماذا حدث؟ أصيب البعض بالرجعية، تكرست حتى اقتنع البعض بالدم والقتل كوسيلة للجهاد المزعوم، لكن ما يحير المجتمع نفسه أن القتل موجه من مسلم إلى آخر، وفي أكثر مكان حرمة، بيت الله! محاربة الفلسفة مثلاً قلصت التفكير العميق، وبناء شخصية مجتمعية معاصرة تتكئ على مفاهيم حديثة لتنظيم العلاقات الفكرية والإنسانية بين أفراد مجتمع واحد، بل وأمة واحدة أحياناً، فطغت سياسة المسلمات، وبات التجنيد للمراهقين مثلاً يرتكز على مسلمات يضعها أفراد أو جماعات اكتشفنا متأخراً أننا تعاملنا معهم بحسن نية، أو بقبول عميق في ذواتنا لما يطرحونه، لكن هل هو قبول عن قناعة، أم هو قبول لأننا وجدنا الأشياء هكذا؟ اليوم تمتلئ الصحف بمحاولات قراءة التفكير غير السوي وغير الإنساني للإرهابيين والداعشيين، تصاريح هنا وهناك لأكاديميين في علم النفس والاجتماع ضمن التغطيات الخبرية لا تقول شيئاً عميقاً يذكر، بل مجرد إلقاء توقعات بأمراض أو ظواهر باستخدام أسمائها العلمية من دون الاتكاء على أبحاث علمية حقيقية ومعمقة، فقط لمجرد الإدلاء بدلو ما يفترض أنه خبير نفسي، أو عالم اجتماع! من الناحية الواقعية، ما هو دور علم الاجتماع في تنمية الإنسان؟ وهل عمل أهله على مدى عقود من تدريسه وطباعة أبحاثه الأكاديمية على التغلغل في ثنايا النسيج الاجتماعي، أو تغيير نظريات المجتمع المطبقة بالممارسة من دون نصوص لها؟ إنه بالتأكيد لم يفعل، لماذا؟ لأنه وضع من الأساس في خانة الشبهة والشك في دوره في بناء ثقافة الناس، لأن محاربيه يعرفون أنه يدعو للتفكير والتحليل، وهم يرون الأشياء مسطحة أفقية واضحة لا داعي لإبراز الحفر أو العثرات فيها. هناك منطقة متداخلة بين علم الاجتماع الذي يحاول محاربوه أن يقنعون الناس بأنه مستورد من الغرب، وبين علم الأخلاق، أو الأخلاق مجردة، التي يعلمنا إياها ديننا، وترسخها ثقافتنا العربية الأصيلة النبيلة، تداخل يجعلني أتساءل: لو أسميناه في جامعاتنا قسم علم الأخلاق، أو كلية العلوم الأخلاقية، فهل سيتغير الحال، هل كنا سنقطع الطريق على محاربيه؟ ربما، وربما يكون في هذا الفعل تسليمه إلى تخصصات لا علاقة لها بالأمر، وإلى أناس لهم علاقة وثيقة بمحاربة العلوم الإنسانية. إننا في مأزق حضاري تبلور بفعل فاعل، فالأمر ليس فقط إننا نواجه الإرهاب لأنه «فئة ضالة» اتبعت أهواء مرشدين فاسدين في الداخل والخارج، بل بات اليوم نتاج لبعض ممارستنا في تهميش دور علوم إنسانية في بناء المجتمعات، وفي دراسة الخلل عندما يصيب بعض أفرادها. ربما تكون المناصحة والحذر التربوي جزءاً من العلاج الذي لا زلنا في مرحلة تقويم نجاعته، لكن ماذا عن الوقاية؟ وكيف يمكننا قراءة التطورات قبل حدوثها؟ نحتاج بالفعل إلى تكاتف العلوم الشرعية والإنسانية لتحقيق الوقاية، ولمعرفة الكثير عن بعض شبابنا الذين صدمنا بأنهم باتوا غرباء عنا، وأعداء لوطنهم ومواطنيهم. mohamdalyami@
مشاركة :