"إذا وُلدت موهبة القرن في قرية صغيرة خلف الجبال، فسنجدها من الآن فصاعدًا" يورج دانييل حارس ألماني ومدير برنامج اكتشاف المواهب السابق. لطالما اشتهرت ألمانيا بأمرين تحقيق النتائج في مباريات كرة القدم وأفضل هندسة سيارات بالعالم في المصانع الألمانية، لكنهم لاحقًا قاموا ببناء مصنع كرة القدم الأكثر نجاحًا في العالم. كانت هدف كرة القدم في ألمانيا حتى بداية القرن الجديد هو الفوز بالعقلية الألمانية التي تسعى دائمًا لتحقيق الانتصار ولم تكن الطريقة مهمة نعم مازالت تحتفظ ألمانيا بهذه السمة، لكن ثمة ثورة كروية بدأت في مطلع القرن وأدت إلى إصلاح شبه كامل لكرة القدم الألمانية، حتى الثورات في ألمانيا منظمة بشكل جيد ويتم تنفيذها بانضباط ونظام صارم. لقد تحول الألمان أصحاب النزعة الدفاعية في الثمانينيات والتسعينيات بأعجوبة إلى الألمان أصحاب المهارة واللاعبين الشباب الذين يهاجمون حتى البرازيل في عقر دارها وينتصرون بسباعية شهد لها العالم. هل بدا الأمر كما أنه ضخ الأموال في طرف والانتظار حتى يخرج مسعود أوزيل أو مانويل نوير وماركو رويس من الطرف الآخر، الأمر ليس بهذه البساطة. سنوات عجاف حذر بيرتي فوجتس، مدرب منتخب ألمانيا في تسعينيات القرن الماضي مرارًا وتكرارًا من أنه لا يوجد مواهب قادمة، وأن ألمانيا كانت تستند على أمجادها، وقريبًا ستتفوق عليها دول أخرى، وقدم برنامج لاكتشاف المواهب عام 1998، لكن لم يهتم به أحد. وعقب بطولة يورو 2000 الكارثية، احتلت ألمانيا المركز الأخير في المجموعة الأولى في البطولة. حصدوا نقطة وحيدة وسجلوا هدفاً فقط بإمضاء محمد شول بعد التعادل الإيجابي أمام رومانيا في افتتاح مباريات المجموعات، وخسروا أمام إنجلترا بهدف آلان شيرار، ومن ثم الخسارة بثلاثية نظيفة أمام البرتغال ليودع المانشافت البطولة من الدور الأول. ولا شك أن السنوات العجاف بين عامي 1998 - 2004 كانت من أحلك الأعوام في كرة القدم الألمانية، حيث خرجت ألمانيا من قبل كرواتيا في ربع نهائي كأس العالم 1998، وقدموا عرض مهين في يورو 2000 ويورو 2004 الاستثناء كان الوصول إلى نهائي كأس العالم 2002 بفضل التنظيم الدفاعي الرائع والقدرة على استغلال الركلات الثابتة وتألق أوليفر كان الحارس الألماني العملاق. حينها استيقظت ألمانيا أخيرًا على حقيقة أن هناك ندرة خطيرة في المواهب، حيث كان ميروسلاف كلوزه الذي حطم الرقم القياسي في تسجيل الأهداف في كأس العالم، مازال يلعب كرة القدم للهواة في دوري الدرجة الخامسة في سن 21 عاما. التغيير بالقوة كان النموذج الألماني يشبه النموذج الإنجليزي، حيث أن الاتحاد الألماني لكرة القدم مسؤول عن المنتخب الوطني ومسابقة الكأس المحلية والحكام، في حين أن الأندية المحترفة لها رابطة خاصة بها. وتحدث فولفجانج هولزهاوزر الرئيس التنفيذي السابق لبايرن ليفركوزن عن خطوات التغيير، قائلا: "علينا جميعًا أن ننظر إلى المنتخب الوطني كما لو كان الفريق التاسع عشر في البوندسليجا، كما أنه الأفضل". بالطبع لم تشارك جميع الأندية هذه المشاعر، لكن تبين أنه عنصر مهم في ثورة كرة القدم الألمانية. أما السبب الثاني في أواخر عام 2001، غرقت كرة القدم الألمانية في أزمة مالية كبيرة عندما أفلس الشريك التلفزيوني الرئيسي للبوندسليجا، وفجأة اضطرت جميع الفرق باستثناء بايرن ميونيخ للاعتماد على المواهب الشابة إلى حد ما، لأنها لم تعد قادرة على التنافس مع أندية من إنجلترا أو إسبانيا أو إيطاليا في سوق الانتقالات. يقودنا هذا إلى السبب الثالث، والأكثر أهمية الذي دفع الأندية الألمانية لتغييرأساليبها في النهاية، حيث أنهم أجبروا على القيام بذلك. قاوم بروسيا دورتموند التغيير حتى اللحظة الأخيرة، عندما كانوا في خطر حقيقي بفقدان ترخيص النادي لكرة القدم، عندها فقط قاموا أخيرًا ببناء الأكاديميات طبقًا لقواعد الاتحاد الألماني، وأنتج الرجل الذي سجل لاحقًا هدف الفوز أمام الأرجنتين في نهائي كأس العالم 2014. الصبر..الشيء الذي لا يمتلكه أحد هذه الأيام في تقرير صدر عام 2011 من رابطة الدوري الألماني بعنوان 10 سنوات من الأكاديميات الذي يعد نظام شامل للناشئين والشباب الذي حوّل المنتخب الألماني إلى قوة طاغية في الكرة العالمية فيما بعد. بعد عام 2000، بذلت ألمانيا قصارى جهدها واستخدمت كل مواردها لإنتاج لاعبين رائعين بدءًا من المستوى الشعبي حتى المستوى الاحترافي، وأقامت ألمانيا إصلاحات باهظة الثمن وبعيدة المدى. روبن دوت الرجل الذي حل محل ماتياس زامر كمدير رياضي في الاتحاد الألماني لكرة القدم في أغسطس عام 2000، كان لديه مشكلة تبدو جميلة بين يديه بعد الخروج من اليورو، لكن كل شيء على ما يرام رغم الخروج المخزي، إذن لماذا علينا التطوير؟ يقول دوت: "إذا كنا في عام 2000 ونحن في القاع فلا بأس، لكن لا أحد يرى أي شيء خطأ هنا". سافر أعضاء الاتحاد الألماني لكرة القدم حول العالم منها هولندا بحثًا عن أفضل الطرق لبناء نظام جديد، ويتحدث دوت بسخرية قائلًا: "الدول الأخرى تأتي إليهم للحصول على الاستشارة الفنية هذه الأيام". في فبراير عام 2001، ألزم البوندسليجا جميع الفرق في الدوري الألماني بإدارة أكاديمية للناشئين والشباب بدءًا من سن 12 عام لاحقًا تم تخفيض السن إلى 8 أعوام، وأصبحت الأكاديميات إلزامية لجميع الفرق في دوري الدرجة الأولى والثانية. قبل البدء.. تغيير فلسفة الكرة الألمانية بعد يورو 2000 كان الأمر يتعلق بتغيير الفلسفة، حيث أراد الاتحاد الألماني الاعتماد نوعًا ما على اللاعبين الأذكياء الذين كان من الممكن تجاهلهم في وقت سابق بسبب افتقار هؤلاء اللاعبين إلى القوة البدنية. وقال روبن دوت المدير الرياضي للاتحاد الألماني السابق: "كنا نعتقد أننا بحاجة إلى لاعبين كبار الحجم مثل ماتس هوملز، لكن اللاعب يجيد بناء اللعب وذكي للغاية، وهذا ما نريده". وأضاف "لن يشارك ماتس هوملز في الدفاع في عام 1982، بسبب إجادته لبناء اللعب بل كان من الممكن أن يشارك في المراكز الهجومية". وأضاف "في السبعينيات كان فرانز بيكنباور يلعب كرة القدم بشكل جيد وكان هانز جورج شوارزنبيك يركض خلف اللاعبين من أجل افتكاك الكرة، الآن بات هوملز مزيج بين طريقة أداء بيكنباور وشوارزنبيك". ثورة في ألمانيا تم بناء 366 قاعدة تدريب إقليمية وإنشاء قسم طبي داخل الأكاديميات وغرف التدليك وأخصائي العلاج الطبيعي، بالإضافة إلى التعاون مع المدارس على مستوى البلاد، علاوة على ذلك هناك 52 مركزًا متميزًا لتعليم المواهب الواعدة، طبقًا لتقرير صدر عام 2016. وتطورت علاقة الاتحاد الألماني وباتت قوية ووثيقة مع أندية البوندسليجا، وبالطبع ساعدت على نجاح البرنامج بشكل رائع. وطبقًا لتقرير صدر من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم عام 2013، كان هناك 28400 مدرب برخصة B في ألمانيا مقابل 1759 لصالح إنجلترا، و5500 مدرب برخصة A مقابل 895 لصالح إنجلترا، وأخيرًا 1070 مدرب برخصة Pro مقابل 115 لصالح الإنجليز. كانت درجة المدربين مهمة للغاية حيث أنها العامل الرئيسي في تحديد تصنيف الأكاديمية، مع العديد من العوامل الأخرى منها عمليات التخطيط الاستراتيجي والمالي، والهيكل التنظيمي وعمليات صنع القرار، والدعم الرياضي والاجتماعي وتقييم المرافق والمعدات المقدمة. وبين عامي 2001-2011، أنفقت الأندية المحترفة في ألمانيا حوالي نصف مليار يورو على تطوير كرة القدم في قطاعات الناشئين والشباب، وفقًا لتقرير صدر من الاتحاد الألماني. مفترق طرق.. التعليم أم كرة القدم س: هل الأندية لديها التزام أخلاقي بالتفكير فيما يحدث للاعبين الذين يفشلون في الحصول على الدرجات المناسبة في التعليم؟ ج: كانت من المناهج الألمانية، تجيب أكاديمية فرايبورج على سبيل المثال، لابد أن يكون الموظفين أصحاب خلفية تعليمية، حتى يتمكنوا من تقديم المساعدة التعليمية إلى اللاعبين. ويتحدث كريستيان سترايش مدرب سابق في أكاديمية النادي "عندما ذهبت إلى أستون فيلا قبل 8 -سنوات، أخبرتهم أن لاعبينا تحت 17 و18 و19 عامًا، يذهبون إلى المدرسة لمدة 34 ساعة في الأسبوع، قالوا لي لا أنت كاذب، هذا غير ممكن، لاعبونا يذهبون لمدة 9 ساعات فقط". وتابع "مسئولو أستون فيلا قالوا على اللاعبين أن يقرروا أن يصبحوا محترفين أم لا، رددت هذا خطأ، معظم اللاعبين في الأكاديمية لا يمكن أن يكونوا محترفين، وعليهم أن يبحثوا عن وظيفة، المدرسة هي الشيء الأكثر أهمية، ثم تأتي كرة القدم". وواصل "نمنح اللاعبين أفضل فرصة ليصبحوا لاعبين لكننا نقدم لهم التعليم هنا، حيث لا يتمكن 80٪ من اللاعبين من اللعب في الفريق الأول، فإن أغلبهم يذهبون إلى التعليم العالي، ونحن بحاجة إلى لاعبين أذكياء في الملعب على أية حال". وأردف ""هنا في إنجلترا، لديهم الكثير من المال وهناك لاعبين رائعين، لكن الشيء الأكثر أهمية بالنسبة لي هو تثقيف المدربين في أكاديميات الشباب، الاستثناء الوحيد هو ساوثامبتون القادر على إنتاج لاعبين بشكل رائع". وتابع "سُئلت عن رأيي في بعض الأندية الإنجليزية الكبرى، التي تنفق الملايين على برامج الشباب وشراء اللاعبين على الرغم من عدم وجود مسارات واضحة لهم للتصعيد إلى الفريق الأول بالنادي". وأتم "يمتلك مانشستر سيتي على سبيل المثال عدد من اللاعبين الأجانب كبير على مستوى الشباب، لكن لابد من وجود مسارات واضحة لهؤلاء اللاعبين، نحن نمتلك 20 شخص لاكتشاف اللاعبين داخل ألمانيا و4 فقط للمحترفين". يقول فرانك يانسين المدير الرياضي السابق لعدد من الأندية منها تشيلسي وتوتنام هوتسبير وهامبورج ويعد المدير التقني الحالي لنادي فينورد "القوة الشرائية لأندية الدوري الإنجليزي الممتاز تحرم خريجي الأكاديمية من فرصة اللعب في الفريق الأول على عكس الدوري الألماني، المال جزء كبير من المشكلة في إنجلترا لأن الأندية تشتري ولا تنتظر". وتابع "وجود قاعدة 50% +1 ضمن الأندية الألمانية تضمن تملك الأعضاء للنادي، مما يساهم في عدم سيطرة المستثمرين الأجانب على النادي، على عكس إنجلترا التي يمتلك الأجانب فيها الأندية ويتواجد قليل من اللاعبين الإنجليز، ومن المستحيل قبول ألمانيا لهذا الوضع خاصة أن نجاح المنتخب يأتي في المركز الأول". وأنهى حديثه "ما يهم بعض الأندية هو الفوز في مباراة الدوري القادمة، وإذا تطلب الأمر توقيع 11 لاعباً من أندية أجنبية للقيام بذلك". الاستثناء الوحيد هو ساوثامبتون، الذي كان قادرًا على رعاية وإنتاج اللاعبين البريطانيين بشكل عام، حيث أنتج عدد من اللاعبين الجيدين خلال السنوات الماضية أبرزهم جاريث بيل وثيو والكوت ولوك شو وتشامبرلين. وتنتهج الأندية الإنجليزية سياسة إعارة اللاعبين الشباب خاصة تشيلسي ومانشستر سيتي من أجل تحقيق مكاسب مالية في المقام الأول، وثانيًا قد يعود بعض اللاعبين إلى الفريق في حال تألقهم. مصنع ألمانيا لكرة القدم بحلول موسم 2011-2012، كان أكثر من نصف لاعبي الدوري الألماني جزءًا من نظام الأكاديمية الألمانية، حيث جاء 20٪ من لاعبي الدوري الألماني من خلال أكاديميات الشباب في الأندية التي لعبوا فيها، فيما هبط متوسط عمر لاعبي الدوري من 27 سنة إلى 25 سنة. في عام 2013، وصل بروسيا دورتموند أمام بايرن ميونيخ في نهائي دوري أبطال أوروبا، بعد عام أصبحت ألمانيا بطلة العالم عام 2014. هذا النظام مازال ينتج نجمًا تلو الآخر، العديد من نجوم المنتخب الألماني الفائز بكأس العالم 2014 هم نتاج نظام ما بعد عام 2000. على سبيل المثال ماريو جوتزه وماتس هوملز ومانويل نوير وميرتساكر وتوني كروس وتوماس مولر ومسعود أوزيل من خلال أكاديميات الدوري الألماني، حيث تواجد 14 من 23 لاعباً فازوا بكأس العالم عام 2014 يبلغون من العمر حينها 25 عاماً أو أقل. كما ظهر بعد اجتماعي مهم للغاية هو ظهور اللاعبين أبناء المهاجرين في المنتخب الألماني، حيث بات واضحًا لأي شخص بالعودة إلى عام 2009، حينما فازت ألمانيا ببطولة أوروبا تحت 21 عامًا ضد إنجلترا برباعية نظيفة. وجود لاعبين ليسوا من أصل ألماني كان الشيء المثير للانتباه في هذا المنتخب ذو الخلفية العالمية، حيث تواجد أندرياس بيك من روسيا، سيباستيان بوينيش من بولندا، جيروم بواتينج من غانا، دينيس أوجو وتشينيدو إيدي من نيجيريا، فابيان جونسون من أمريكا ، جونزالو كاسترو من إسبانيا، سامي خضيرة وأنيس بن حتيرة من تونس، وأشكان دجاكه من إيران، وأخيرًا مسعود أوزيل من تركيا. وباتت ألمانيا دولة تستقبل المهاجرين مثل أي دولة أوروبية حديثة أخرى خاصة في ظل الانخفاض السكاني المتوقع بحلول عام 2050، لذلك كان المهاجرين أحد الحلول المهمة. بالطبع لم تكن الأجيال الأولى من المهاجرين قادرة على تمثيل المانشافت، فعلى سبيل المثال الأتراك لم يكن يحلمون أبدًا باللعب لمنتخب ألمانيا، لكن هذا تغير. لا يعد الأمر من قبيل الصدفة أن تفوز ألمانيا بكأس العالم 2014، إنه ليس جيلًا ذهبيًا من اللاعبين يحدث مرة واحدة في العمر، لكنها نتيجة نظام مستدام أشبه بمصنع عملاق يجب أن يستمر في إنتاج لاعبين رائعين في المستقبل لصالح الكرة الألمانية. ألمانيا لديها الكثير من الأشياء كدولة، حيث تعد ثاني أكبر دولة في أوروبا من حيث عدد السكان، ولديها اقتصاد ممتاز وشعب عاشق لكرة القدم بالإضافة إلى عنصر المهاجرين الذي أضيف مؤخرًا وتحاول الحكومة الألمانية الاستفادة منه في شتى المجالات. خلط كل تلك المزايا الموروثة وتطبيق نظام شامل ممول بشكل جيد، ستكون النتيجة حتمًا هي الفوز بكأس العالم وهو ما حدث في عام 2014، في عملية استغرقت أكثر من عقد من الزمان.
مشاركة :