يستمد هذا الكتاب أهميته الاستثنائية من طبيعة موضوعه، حيث يقدم بالتفصيل شهادة قيصر، وهو الاسم الرمزي لمصور سابق في الشرطة العسكرية السورية، عن وقائع التعذيب حتى الموت في أقبية سجون النظام ومعتقلاته، التي مارسها رجال النظام السوري ضد قوى المعارضة، وعلى امتداد 250 صفحة يقدم الإجابات والأدلة المدعومة بالصور على وجود قيصر، وهو ما كان الرئيس السوري بشار الأسد قد نفاه في حوار أجرته معه مجلة فورين أفيرز الأميركية، ونشرته في يناير الماضي. ويتابع رحلة قيصر المحفوفة بالمخاطر، واضطراره في نهاية المطاف إلى مغادرة سوريا إلى أوروبا عبر الأردن، بعد أن أحدقت أخطار حقيقية به وبعائلته، كان يمكن معها أن يكون الموت مصيره على يد جلادي النظام السوري. تستمر المأساة السورية منذ أكثر من أربع سنوات، عرفت فيها البلاد حالة من الدمار أعادتها إلى الوراء عشرات إن لم يكن مئات السنوات. والسوريون هم الذين دفعوا الثمن الأكبر، قتلاً واعتقالاً وتشريداً وتهجيراً. وإذا كانت الإحصاءات التي تصدرها المنظمات الدولية المعنية تشير إلى ما يزيد على 250000 ضحية، فإن العالم كان يجهل إلى حد كبير ما يجري حقيقة داخل أقبية التعذيب حتى الموت في السجون والمعتقلات السورية. ومن هنا بالتحديد تأتي أهمية الكتاب الذي يصدر عن دار نشر ستوك الفرنسية اليوم تحت عنوان عملية قيصر، وتحرره الصحافية الفرنسية المستقلّة غارانس لوكين التي كانت قد أقامت فترة في القاهرة، وترددت مرات عدة على سوريا، وعرفت تحقيقاتها النشر في عدد من الصحف والمجلاّت الفرنسية وخاصة نوفيل اوبسرفاتور الأسبوعية. ما تؤكده مؤلفة الكتاب أنها أمضت ساعات طويلة مع قيصر، وهذا هو الاسم المستعار لمصور سابق في جهاز الشرطة العسكرية السورية. وشهادته تمثل نوعاً من الإجابة عن ما كان قد صرح به رأس النظام السوري بشار الأسد لمجلّة فورين أفيرز الأميركية في شهر يناير من هذا العام عندما أكد أن هذا المصور العسكري غير موجود، قائلاً: من التقط هذه الصور؟ من هو، لا أحد يعرف. ولم يتحقق أحد من حقيقتها. إجابات وأدلة وصور وهذه الشهادة على مدى أكثر من 220 صفحة تقدم الإجابات والأدلّة المدعومة بالصور على أن قيصر موجود. وهو يقدم نفسه كالتالي: كنت مصوراً عسكرياً في جهاز الشرطة العسكرية بدمشق. وكنت قبل الثورة مكلفاً بتصوير مشاهد الجريمة والحوادث التي يتورط فيه عسكريون. ويروي قيصر في شهادته أنه كان مكلفاً مع بعض زملائه بتصوير جثامين المدنيين. وهكذا وجد نفسه شيئاً فشيئاً شاهداً مباشراً على مشاهد الرعب التي تجري في السجون السورية. ويقول: قبل الثورة كان رجال النظام يقومون بالتعذيب من أجل استخراج المعلومات. واليوم هم يقومون بالتعذيب بهدف القتل. ولا يترددقيصر في وصف الصور التي شاهدها وصورها بأنها لبشر ذاقوا أقسى عمليات التعذيب، كما تدل الدماء التي غطت أحياناً أجسادهم، أو آثار الضرب عليها، أو اقتلاع أظفارهم، أو تكسير أسنانهم. ومما جاء في شهادته: في البداية كان اسم الضحايا يوضع على كل جثة. وبعد مرور فترة من الزمن أسابيع عدة أو شهر، اختفت الأسماء تماما، وجرت الاستعاضة عنها بأرقام. ثم يحدد قيصر القول: كان هناك في الواقع رقمان، أحدهما يتم لصقه أحياناً أو كتابته بالخط العريض على جسد صاحبه مباشرة، والرقم الآخر يخص اسم الفرع الذي كان أحد سجنائه. وما يؤكده صاحب الشهادة في هذا الإطار أنه وجد نفسه هو وزملاؤه مكلفين، بسبب كثافة العمل وتسارع عمليات التعذيب والموت، إضافة إلى التصوير، بالمساهمة في تصنيف ملفات الضحايا، وتطلّب ذلك منهم العمل طيلة ساعات في اليوم. رعب وتعذيب وقتل ومن المعلومات الكثيرة التي يقدمها قيصر في شهادته بهذا الكتاب أن النظام السوري القائم أقام منذ البداية علاقات وثيقة معه بلدان الكتلة الشرقية ــ الشيوعية ــ السابقة. ويشير إلى أنه من القواعد التي تبناها تصوير ما يجري في السجون، خاصة في المناخ البيروقراطي السائد وأجواء انعدام الثقة الشائعة داخل النظام نفسه. وبالنتيجة من يطع الأوامر عليه أن يقدم البراهين على أنه نفذها بحذافيرها. والإشارة في هذا السياق هي إلى وجود عدد كبير من الأجهزة الأمنية والمتنافسة غالباً في ما بينها. وعن قصة قراره بجمع البراهين على ما يجري داخل السجون السورية، يروي قيصر أن ما كان شاهداً عليه من رعب ومن عمليات تعذيب وقتل دفعه للتفكير جدياً بالفرار. لقد أسرّ بذلك إلى أحد أصدقائه المقربين، فأقنعه ذلك الصديق أن عليه البقاء وجمع أكبر قدر ممكن من البراهين والوثائق من صور وغيرها. هكذا استمر فترة عامين كاملين بـتمرير عدد من الصور التي يلتقطها لضحايا التعذيب لمجموعة معارضة كان صديقه قد وصله معها. عامان في الخطر بعد مرور عامين، وتحديداً في عام 2013، أحس قيصر بأنه هو وأسرته أصبحا بخطر حقيقي، الأمر الذي دفعه للخروج من سوريا عبر الأردن قبل أن يجد ملجأ له في أحد البلدان الأوروبية، ثم جرى إخراج قسم من الوثائق والصور بواسطة أحدهم إلى تركيا ومنها إلى أوروبا. تلك الصور التي كان قد جرى إخضاعها لأطباء شرعيين ولخبراء عالميين، تم عرضها على الرأي العام في أوروبا ببداية عام 2014. وتم تأكيد أنها صحيحة من قبل العديد من المؤسسات المختصة. تجدر الإشارة إلى أن مؤلفة هذا الكتاب تقدم، إلى جانب شهادة المصور قيصر، مجموعة من الشهادات التي أسرّ لها بها سجناء سابقون، كانوا قد عرفوا تجربة التعذيب في سجون النظام السوري. وهذه الشهادات تذهب كلها باتجاه تأكيد ما جاء في الشهادة التي قدمها قيصر. وينبغي الإشارة أيضاً إلى أن صدور هذا الكتاب يتواكب ويتزامن مع التحقيق الأولي الذي فتحته فرنسا، قبل أيام، حول الجرائم ضد الإنسانية وفي أفق تقديم الملف أمام المحكمة الجنائية الدولية. وثائق بالصور وقيصر المقصود بعنوان هذا الكتاب هو الاسم المستعار لمصور سوري كان يعمل في جهاز الشرطة العسكرية السورية. وقد خاطر بحياته عندما أخرج على مدى عامين نحو 50000 صورة ووثيقة لمعتقلين في السجون السورية جرى تعذيبهم حتى الموت. فيض من الصور يحشد الأدلة ضد القتلة على امتداد عامين كاملين، في ما بين عام 2011 وعام 2013، استخدم قيصر وهو الاسم الرمزي لمصور سابق في الشرطة العسكرية السورية جهاز كمبيوتر تابع لهذه الشرطة لنسخ ألوف من الصور للمعتقلين في سجون نظام الرئيس السوري بشار ألأسد، خلال وقائع عمليات تعذيبهم حتى الموت في محاولة لانتزاع الاعترافات والمعلومات عن المعارضة السورية منهم. وقد نشرت وسائل الإعلام العالمية العديد من التقارير عن قيصر والمخاطر الهائلة التي تعرض لها في غمار قيامه بتسجيل جرائم جلادي النظام السوري، التي كان يمكن أن تودي به وبأفراد عائلته. وعلى امتداد شهر إثر الآخر طوال عامين التقط قيصرالصور للضحايا الذين كانوا يعانون من التعذيب والحرق والتجويع، وكانت الأوامر الصادرة له هي توثيق ما يجري كونه دليلاً ملموساً على قيام كوادر الشرطة العسكرية السورية بتنفيذ الأوار الصادرة لهم في هذا الصدد. غير أنه قام سراً بنسخ الصور لكي يوثق جرائم النظام، وقام بتهريبها من مكتبه على مستنسخات اليو إس بي عبر تهريبها في حذائه أو حزامه، ومن ثم تمريرها إلى صديق له على صلة بإحدى جماعات المعارضة التي استطاعت إخراجها إلى خارج سوريا، لتصل إلى عيون العالم. ويلفت نظرنا أن الرئيس السوري بشار الأسد حرص على تأكيد أنقيصر لا وجود له، وذلك في مقابلة أجرتها معه مجلة فورين أفيرز الأميركية، ليأتي هذا الكتاب بما فيه من صور ووثائق ووقائع وشهادات، ليكذب ما قاله الأسد جملة وتفصيلاً. وقبل قيصر لم يكن هناك أحد من قلب السجون السورية يقدم الأدلة والبراهين على وجود آلة الموت السورية، أما اليوم فإنه بهذه الصورة والوثائق يتاح للتحقيقات العالمية أن تبدأ استناداً إلى أدلة لا تقبل الدحض. وهذه الأدلة شكلت الأساس الذي يستند إليه تحقيق الحكومة الفرنسية الأولي في جرائم النظام السوري، وكذلك أساس تحقيق الأمم المتحدة، كما يمهد لما ستقوم به المحكمة الجنائية الدولية في المستقبل القريب. ويلفت النظر إلى أن جماعة المعارضة التي قامت بحماية قيصر، وهي الحركة الوطنية السورية، تعد حركة معارضة معتدلة، وكان يمكن من دون معاونتها أن يتعرض قيصرلأخطار جمة، ربما كان يمكن أن تعرضه وعائلته للقتل على أيدي جلادي النظام السوري. ويقولقيصر، إنه طالما شعر بالحيرة حيال حرص مسؤولي النظام على التقاط صور جرائم رجالهم وأرشفتها والاحتفاظ بها، لكنه أدرك أن السر في ذلك يكمن في نهاية المطاف بيروقراطية النظام، وافتقاره إلى الثقة برجاله جميعاً. وهو يشير إلى أنه على امتداد خمسين عاماً حرصت الشرطة العسكرية السورية على تسجيل تفاصيل عمليات التعذيب والقتل التي ترتكبها، حيث إن النظام يسجل كل شيء بما في ذلك الجرائم التي ترتكبها كوادره بأوامر من قياداته. وأحد أسباب استمرار هذه الممارسات هو أن أجهزة النظام كانت تحس بأنها لا تقهر، وأنه لن يأتي يوم تحاسب فيه على تجاوزاتها الوحشية. المؤلف غارانس لوكين صحافية فرنسية مستقلة، أقامت لفترة في القاهرة، وترددت مرات عدة على سوريا. وأنجزت العديد من التحقيقات التي نشرتها صحف ودوريات فرنسية كبرى، عن سوريا وبلدان العالم العربي، في ظل ما عُرف بالربيع العربي. وقد حظي كتابها هذا باهتمام عالمي كبير، حيث تحول إلى المادة الأساسية التي تستند إليها تحقيقات عالمية في الممارسات الوحشية للنظام السوري. شهادة واقعية أبدت الصحافة العالمية اهتماماً كبيراً بكتابعملية قيصر.. في قلب آلة الموت السورية، وشددت على أن الكتاب يقدم شهادة واقعية للمصور السابق في الشرطة العسكرية السورية. وقالت صحيفةغارديان اللندنية، إن ما قدمه قيصر يعد أدلة صادمة على ما يتم اقترافه في أقبية النظام السوري وسجونه ومعتقلاته من جرائم . وبدورها قالت صحيفةديلي ميلاللندنية، إن الوقائع والحقائق التي يقدمها الكتاب تتحول الآن إلى الأساس المادي الذي يقوم عليه التحقيق الذي تجريه الحكومة الفرنسية، وهيئة الأمم المتحدة في جرائم النظام السوري بحق أبناء شعبه. تأليف:غارانس لوكين عرض ومناقشة:دكتور محمد مخلوف الناشر:ستوك، باريس، 2015 عدد الصفحات:224 صفحة
مشاركة :