في زيارة رئيس حكومة السلطة الفلسطينية إلى قطر حكومات الأمر الواقع التي لا تكترث للشعب ومصالحه ولا تتكلف حتى إصدار بيان ببرنامج عمل مُلزم، باتت عورة فادحة، لا يستحق شعب فلسطين أوزارها ولا تليق بتاريخه ولا بوعيه النوعي المتقدم. حكومات الأمر الواقع التي لا تكترث للشعب ومصالحه بعد أن طال أمد الخلل والتجويف المؤسساتي الخطير الذي أوقعه محمود عباس في الكيان الفلسطيني، لم تعد هناك زيادة لمستزيد من الصبر والقدرة على الاحتمال. فقد أصبح الأمر مثيرا لسخرية العالم بأسره في لحظة بات الفلسطينيون فيها أحوج من أي وقت مضى إلى توحيد عنوانهم السياسي، ورفده بالحيثيات الدستورية والقانونية، وإنهاء مهزلة اختزال العنوان الرسمي، في شخص عباس الذي كلما نطق؛ أحرج مواليه قبل إحراج معارضيه! لا تزال الانتخابات الفلسطينية مرتجاة، ويرى فيها الفلسطينيون، ومعهم الإقليم والعالم، حلاّ لمشكلة افتقاد النظام الفلسطيني للأهلية وللجدارة حتى في التوصل مع أي طرف إلى اتفاق سياسي هزيل. فمن أي نقطة تبدأ عملية استعادة النِصاب؛ سوف تتحقق الفائدة. فإن بدأت من الانتخابات المحلية للقرى والمدن، وصعدت إلى التشريعي المفترض أن يكون لسلطة الحكم الذاتي المحدود، ثم وصلت إلى برلمان منظمة التحرير الجامعة، وهي المرجعية السياسية؛ يكون الأمر ماضيا في الاتجاه الصحيح. وإن بدأت عكسا، بانتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني، تكون الأمور أيضا في الاتجاه الصحيح الذي يجعل عملية استعادة حيثيات النظام السياسي الفلسطيني، أسرع وأفعل. حال التَشوّه الذي عليه الآن هذا النظام، لا يسر سوى الاحتلال وحفنة الانتهازيين الذين يحاولون تجميل الوضع، بإضفاء هالات من العبقرية والذكاء والحنكة والجدارة العالية على رجل تسعيني، تتوافر بصوته وصورته المئات من الأشرطة التي تجرح الحقائق وتسخر من الكبرياء الوطني وتسد آفاق الأمل. فلا حاجة للمزيد من البراهين على هذه الظاهرة العفنة، التي لا تتقبلها ذائقة الإنسان المتخلف، فما بالنا بالإنسان السّويّ. لذا فإن بقاء الحال على ما هي عليه، يُعد جريمة وإساءة متعمّدة للنضال الوطني الفلسطيني وللمجتمع، ولأسر الشهداء، ولكبرياء ووطنية الشباب الذين بذلوا ويبذلون دماءهم من أجل حرية شعبهم. كذلك فإن حكومات الأمر الواقع التي لا تكترث للشعب ومصالحه، ولا تتكلف حتى إصدار بيان ببرنامج عمل مُلزم؛ باتت عورة فادحة، لا يستحق شعب فلسطين أوزارها ولا تليق بتاريخه ولا بوعيه النوعي المتقدم في مراحل الثقافة والإحاطة بكل جوانب قضيته! فلسطينيو الخارج والداخل أصحاب حق غير قابل للتصرف، في اختيار ممثليهم في كل الأطر. فبهذا وحده يمتلك أي شعب حاضره وإرادته ويشق طريقه إلى مستقبله. التشخيص الصحيح للوضع المزري الذي بات عليه هذا الشعب منذ سنوات، وأصابت تداعياته المؤلمة كل جوانب حياته؛ يُملي على الأشقاء العرب، الاستمرار في ضغوطهم للبدء في العملية الانتخابية الشاملة من المجلس الوطني الفلسطيني، أي البرلمان الفلسطيني الكامل، وهذا هو شرط الدخول إلى مرحلة جديدة، بكُل ثقل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، استئناسا بوحدة وجدانه الوطني وبشفاعة الحق الطبيعي لكل فلسطيني. إن آمال الاستقلال الوطني في الأراضي المحتلة والمحاصرة، انهارت تماما، إذ لم تعد هذه الأراضي في حوزة سلطة مركزية موحدة أو مفككة. فمن يتحكم في أوضاعها هو ضابط احتلالي يسمونه “المنسق”. معنى ذلك أن التشخيص السياسي الدقيق لأوضاع العنصر الأول أو الشرط الأول ـ من ثلاثة أساسية ـ لقيام الكيانات، وهو المساحة الجغرافية التي يكون فيها الشعب سيّدا على أرضه؛ غير موجود، بل إن الشرط الثاني وهو وجود الحكومة المركزية، غير متوافر أيضا، أما الشرط الثالث وهو وحدة الشعب على المستوى المؤسسي، فهو لا يزال غائبا ولا يحضر من خلال مجلس وطني شكلي، مفتوحة عضويته للتعيين، لاسيما عندما يكون نمط التعيين فاسدا وانتقائيا، يحتكر القرار فيه شخص لا يرى له دورا، أهم وأوجب، من إحباط تمثيل الفلسطينيين لأنفسهم. التوجه إلى انتخابات للمجلس الوطني، تحسب الرؤية المصرية، من شأنه إعادة الفلسطينيين إلى أيام تأسيس المنظمة، وإلى مكان التأسيس وهو القاهرة عاصمة الكنانة، بل يعيدهم هذا التوجه إلى اللغة الأولى التي سُمعت في اليوم الأول من انعقاد القمة العربية النظامية الأولى في الثالث عشر من يناير 1964. ففي تلك اللغة، استخدم الأشقاء تعبير “إبراز الكيان الفلسطيني” وهذه جملة نجح عباس في إيصال الفلسطينيين إلى مرحلة الإحساس براهنيتها بعد خمسة وسبعين عاما من إطلاقها، وقد تخللتها شلالات دم ونضالات باسلة وعمليات بناء سياسي وكياني قبل السلطة، وانتهت برجل يترك كل أوجاع شعبه وأوجاع الأمهات، ولا يتحرّج من إظهار التأسي عبر شاشات التلفزيون، لكون الأسير الإسرائيلي السابق شاليط كان محروما من عائلته، كأنما يريد القول إن إطلاق أسير إسرائيلي، فورا ودون مقابل، وفي جوهر المعنى، يريد إحباط أي اتفاق على تبادل الأسرى. لا بد من أن يبدأ الفلسطينيون سريعا، عملية استعادة عقلهم الكلي ونصاب كيانهم السياسي، لأن ما جرى في سياقات التدمير المتوازي للكيان الوطني، كثير وكارثي، بيد إسرائيل وعباس وحماس. فقد تلازم تدمير الأبراج والعمائر والبيوت والمدارس مع تدمير مؤسسات النظام السياسي وإحراق الوثيقة الدستورية، وحبس القانون. في العاصمة القطرية الدوحة أطلق محمد اشتية رئيس حكومة عباس، تصريحا مبشرا بانتخابات فلسطينية لم يحدد وقتها. وفي الحقيقة لا يختلف فلسطينيان اثنان على أن اشتية يمتلك ميزة التدفق في الكلام لكن كل ما يتدفق به يفتقر دائما إلى عنصر الصدقية. فهو يقول إن الرئيس سيُصدر مرسوما ويحرص على تذييل التصريح بذريعة القدس دون شرح، حفاظا على الشرط الضامن لعدم إجراء الانتخابات. معنى ذلك أن ما يكذب فيه رئيس حكومة عباس له ثلاث نقاط من العوار، الأولى أنه يستخدم الحرف سين، الموصوف في النحو العربي، بأنه حرف استقبال وتسويف لا محل له من الإعراب. والثانية أن الكلام يصدر في قطر أي أنه تصريح اقتضته وعثاء السفر لتسليك موضوع المال والإعمار، والثالثة أن عبارة “الرئيس سيُصدر مرسوما” لم يسبق أن أفصح عنها مركز الإصدار أو أحد معاونيه، مبشرا بأن الانتخابات قريبة الحدوث مع التنويه إلى تدبير يؤمن تصويت المقدسيين وحقوقهم الدستورية! هذا الأسلوب، يسمونه في العامية الفلسطينية “تحلاية القعدة”، وهو في كلام اشتية يدخل في سياقات التشاطر في الكلام، وأغلب الظن أنه لن ينفع، ولن يرفع عن عباس، الضغوط الداخلية الفلسطينية إصرارا على انتزاع الحقوق السياسية. فهذه حقوق لن يحصل عليها أصحابها بحرف التسويف، الذي ظل يستخدمه عباس منذ العام 2011 عندما صدرت وثيقة المصالحة التفصيلية التي لم يُنفذ أي بند منها. عدلي صادق كاتب وسياسي فلسطيني
مشاركة :