يُعد بينالي فينيسيا إيطاليا مهرجان جزر البندقية للفنون المعاصرة أول وأهم معرض فني عالمي؛ فمذ نشأته عام 1895م وهو يهدف لاستقطاب أهم التجارب الفنية من الأعمال الحديثة لأبرز الفنانين المعاصرين ومنسقي المعارض المتميزين محليا وإقليميا وعالميا، يزور هذا المعرض بانتظام المهتمون والباحثون وجامعو اللوحات والتحف والنفائس والنوادر والمؤرخون والمصممون والسياح لمعرفة اتجاهات الفنون وأجمل وأغرب وأنفس إبداعات فنية مبهرة. يقيم بينالي فينيسيا معرضا كل عامين بين 23 إبريل و27 نوفمبر، ويعرض منذ مئة وثلاثين عاما أعمالا فنية في مجالات الرسم والتلوين والنحت والخزف وفنون التركيب وجميع الإبداعات اليدوية بمختلف الخامات الطبيعية والصناعية، كما تعرض فنون الأعمال الحاسوبية والمبرمجة رقميا وأعمال الفديو آرت على الشاشات، حيث نما المهرجان في ثلاثينات القرن العشرين وبين الحربين العالميتين أدرجت إدارة المهرجانات فنون السينما والمسرح والموسيقى ضمن فعالياتها تعبيرا لما يمر به الإنسان من أزمات وكوارث، ثم في منتصف الثمانينات أضافوا فنون العمارة كفنون جميلة وراقية ومؤثرة في مماراسات الفنون واتجاهاتها الفكرية ذات القيم الإبداعية، وأخيرا مع الألفية الجديدة أضافوا فنون الرقص والأداء التعبيري الجسدي ضمن جوائز البندقية. فعليا، منذ تأسيس البينالي وهو في تطور دائم وجاذبية وحيوية مستمرة ويزوره مئات الألوف من السيّاح، فبسبب ليونة ومرونة برامجه كل عامين، ومن حيث يقع المهرجان في الحديقة العامة قاريني فينيسيا ويضم ثلاثين جناحا يُمثّل ثلاثين دولة، ويجاوره متحفان تاريخيان يثريان الزيارة بالنفع والفوائد الجمّة، وهناك معارض عالمية ومنها فيلّا متحف بيقي قونهايم الأمريكية، سجلات ومعلومات وتفاصيل كثيرة لأبرز فناني ونجوم العالم في الفن التشكيلي رسم ونحت وديجيتال، ونجوم السينما والشاشات، رموز وأيقونات الشاشات والفن والحياة تتجمّع هناك لتسطع وتتألق، ومعه فعاليات جذابة للأطفال والسيّاح، وكتالوجات وإصدارات وتذكارات ثرية ومنوعة. يُذكر أن مصر كانت أول دولة عربية أسست هناك جناحين عام 1952 وحصلت في 1995 على جائزة الأسد الذهبي أعلى جائزة هناك. ضمن رعاية الدولة للفنون والإبداعات تنشط في الحقيقة حاليا مؤسسة مسك السعودية ووزارة الثقافة فقد أسستا جناحا سعوديا منذ عام 2017 في ارسنالي وتشرف على تألقه هناك كصالة تتنفّس فيها إبداعاتنا أوروبيا وعالميا، يواكب التشكيليون السعوديون التطور والتقدم أينما كان شرقا وغربا، لكن فيما يخص بينالي فينيسيا، زار ثلاثة وخمسون فنانا سعوديا البينالي في 2009 وشارك منهم ثمانية في معرض أسموه «حافة الصحراء» تنسيق مؤسسة جميل الفنية، شاركت بأعمال الفنانين التاليين أحمد ماطر، عبدالناصر غارم، شادية عالم، فيصل سمرة، مها ملوّح، منال ضويان، أيمن يسري. ثم شاركت في عام 2013 م بستة وعشرين فنانا غير مشهورين آنذاك بمعرض عنوانه «جيل في الانتظار»، وفي عام 2018 بعد تأسيس مؤسسة مسك الفنية شاركت في معرض معماري وفضاءات بيئية، ومؤخرا في 2019 شاركت الفنانة الدكتورة زهرة الغامدي بمعرض مبهر للزوار والمتلقين، حيث يحتوي على خمسين ألف قطعة فنية مشغولة بعشرة أصابع يدين ماهرتين بتشكيل الجلود والصدف وأي موّاد قابلة للنطق والتعبير عن الفكر والحلم والشجن والعاطفة، تترجم الخمسون ألف قطعة رؤيتها للمنزل وتعبر عن علاقتها ببيئتها وعشقها لتراثها العربي، الذي استلهمت منه قصيدة زهير بن أبي سُلمى (وقفت بها من بعد عشرين حجة، فلأيا عرفت الدار بعد توهّم) في صنع تلك القطع النفيسة، هذه المشاركة أذهلت الحضور، ومن ثم أذهلت مشاهديها عن بُعد، حيث اتصل بي فنان أكاديمي يزرو ويشارك بيناليهات عالمية ومنها فينيسيا الذي شارك بلوحاته في عدة دورات سابقة، يستفسر من ذهوله عن معرض «بعد توهّم» هل حقيقي أن تلك القطع صنع فنانة واحدة، أم معها فريق عمل متخصص؟ وهل هي فنانة حقيقية أم عابرة. فأجبته بأن الدكتورة زهرة ترأس قسم الرسم والفنون حاليا، ومنذ ظهورها في المشاركات المحلية بجدة وهي فنانة تتسم بالجدية والوعي وحب الممارسة والتعبير بالخامات والمواد الطبيعية. إن تأسيس جناحا سعوديا في فينيسيا إنما هو من الهدايا الجزلة والعطايا الدسمة التي تقدمها الدولة السعودية، ورعايتها لأبنائها وبناتها التشكيليين، وستزيد أعداد الفنانين وينمو حضور مشاركاتهم لينشروا فنونهم وإبداعاتهم في منافذ عالمية وبين جماهير دولية فتزيد روح المنافسة لديهم، ويحتكّوا بأهم فناني العالم من مختلف القارات والدول والشعوب، ندرك الخامات ومسمياتها، ونرى كيف يتم تشكيلها بتقنيات وأساليب وطرز فني لها تطبيقات أخرى إبداعية وابتكارية، فمن المعلوم، بأن الترحال وزيارة المعارض والمتاحف لها عوائد علمية معرفية فنية تصميمية جمالية، تتطلّب عيونا ثاقبة وعقولا مستنيرة وقلوب شغوفة بالتحديث والتطوير وأيادٍ ماهرة جسورة شجاعة لا تهاب التجريب قادرة على معالجة المواد لإبهار وجذب عيون المتلقين بلغة الصورة التي يصعب ترجمتها وتحديد معانيها، حيث نتواصل ونتثاقف مع العالم جماليا من خلال صورة يدركها كل صاحب بصر وبصيرة، لنعبر عن أحلامنا وأوضاعنا الحالية وطموحاتنا ورؤانا وآمالنا المستقبلية. فنان وناقد تشكيلي
مشاركة :