عالمٌ عَلَمٌ ذو انفراد، انفراد علوٍّ وتسامٍ لا انفراد نزول وتدانٍ، حقيق بالفرادة، متميِّز بالإجادة، مجلسه حفيل ومجالسُه قمين بالإفادة، يزينه عِلم وحلم، يجلِّله تقىً وورع، تزكو نفسه بالإفادة، يفرح بالنَّفع، يُخلص بالنَّصيحة، يختزل لك خبرة السِّنين مع معرفته بالأحوال بلفظ موجز، إذا كنت جادًّا أفدت منه وعنده استنجحت، وإن كنت هازلاً أو متراخياً عنه ابتعدت واستدبرت. من سمات أستاذنا الأجلِّ أ.د. تركي بن سهو العتيبيِّ الإتقان فلا يقبل شيئاً فيه تفريط ولا يظهر عملاً فيه تقصير، إذ شرط الإتقان شرطه، والشَّرط هو ما يلزم من عدمه العدم، فالعمل غير المتقن غير موجود عنده. يرتدف هذه السَّمة السَّامية أختها وهي سمة الانضباط يظهر ذلك عنده جليًّا في تعامله في مواعيده، في مراعاة وقته إبَّان التَّدريس وكذا في دوامه وعمله غير التَّدريسيِّ، فلا أذكر أنَّه تأخَّر عن محاضرةٍ من محاضراته، وقد كان أستاذاً لنا طلبة الدِّراسات العليا في قسم النَّحو، وسيأتي حديث عن ذلك. والسِّمة الثَّالثة هي السَّيرورة وَفق النِّظام فلا يخرم النِّظام أبداً، بل يسير وفقه ويرشد المسؤول إليه إن رآه غفل عنه أو سها، وهو من هو في معرفة الأنظمة وتفسيرها، ولا يعني دركه لها أن يتلمَّس المداخل على النِّظام والتَّحايل عليه، فليست الحيل والتَّحايل من قاموسه، فما له يطلبه بالنِّظام وما عليه يؤدِّيه وَفق النِّظام، فهذه السِّمات الثلاث عنوانه، وليست هذه سمات فضيلته فحسب، بل هو زاكي الصِّفات كريم الشَّمائل والأخلاق. وقد خسره قسم النَّحو والصَّرف بعد تقاعده مذ سنواتٍ إذ لم يتعاقد معه، وهذا القول مني قول الحقِّ والمعدلة لا من صرف العاطفة ومن خَبَرَ فضيلته صدَّق قولي، وقد حصل في ذلك إعلاك ولجلجة ولجاجة، بعدها قد عزف الشَّيخ من التَّعاقد، ومهما يكن من شيء فابتعاد مثله خسران للقسم، ووجوده وجود -حفظ الله الشَّيخ ومتَّعه بالصَّحة والعافية- وللشَّيخ جهود علميَّة ظاهرة، وتحقيقات قيِّمة لكتبٍ قيِّمة، وقد برَّ بأستاذه حين أظهر كتاباً مجاوزاً عدُّ صفحاته (700) صفحة جاء عنوانه (محمَّد عبدالخالق عضيمة سيرة حياة) وكان كتاباً حافلاً استثار به شيخنا سيرةَ شيخه رحمه الله، وما قيل عنه. وهذا من إخلاص شيخنا لشيخه ووفائه له. وها أنا ذا الآن أكتب هذا المقال لأدوِّن به بعضاً من حديث لقاءاتي ومجالساتي مع شيخنا. كنتُ في رحاب كلِّيَّة اللغة العربيَّة في جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة في العام (1417-1418هـ) أو قبله يشيع بين الطَّلبة أنَّ أحد أساتذتها من قسم النَّحو جاءه شكرٌ من جامعة الكويت أو أنَّه تلقَّى جائزة على ذلك، وذلك أنَّه كان محكِّماً في لجنة التَّحكيم فيما ينشر في المجلَّة الصَّادرة من تلك الجامعة، وكان ذلك الأستاذ هو أ.د. تركي بن سهو العتيبيَّ، وكان الطَّلبة - وكنتُ أنا منهم - نتطلَّع أن نرى ذلك الأستاذ صاحب الجائزة والشُّكر، وفي إحدى المرَّات في العام المذكور وأنا متَّجه مع قوافل الطُّلاب إلى الدَّرج الرَّئيس في الكليَّة المنحدر بإزاء مكتب العميد - وكان ذلك وقت فسحة ما بعد المحاضرة الثَّانية على النِّظام السَّابق - إذ مرَّ في الاتِّجاه المقابل أ.د. تركي بن سهو العتيبيُّ قادماً من الجهة الجنوبيَّة للكليَّة، فيتهامس الطَّلبة ويخبرني مَن كان معي أنَّ هذا هو صاحب الجائزة وذو الشُّكر، فصوَّبت نظري إليه، وهو يمضي في طريقه لا يتقحَّم وجوه النَّاس بالنَّظر، بل يمرُّ مرًّا سريعاً كأنَّما يتحدَّر من صببٍ، وهذه عادته في مِشيته. ولقد رأيته فرأيت رجلاً يعتمر الغترة البيضاء لا الشِّماغ رجلاً لا نحيلاً متهشِّماً ولا بديناً مضخِّماً بل رأيت بنية جسمه في أحلى ما يرى فيما يسمَّى بالجسم الرِّياضيِّ، رجلاً في الأربعين يغمره النَّشاط في الأشُدِّ يعلوه الجِدُّ، ظاهر ذلك من قسمات وجهه ومن خطوات مشيه؛ فأحكمت حكمتي، وحكمت لنفسي إنَّ هذا الأستاذ من الأساتذة الجادِّين، لكن لم أره بعد تلك الإراءة، ثُمَّ تمضي السِّنون وأتخرَّج بكلية اللغة العربيَّة معلِّماً للِّغة العربيَّة في المرحلة الثَّانويَّة، وبعد انفراط عقدٍ من السِّنين عدت إلى جامعتي جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة، وذاك في العام (1427-1428هـ) ملتحقاً ببرنامج الدِّراسات العليا في قسم النَّحو والصَّرف وفقه اللغة بكليَّة اللغة العربيَّة، وقد علمت حينها أنَّه قد أصبح عميداً لعمادة البحث العلميِّ، فأدركت ندرة رؤيتيه في الكليَّة آنذاك. وفي برنامج (الماجستير) حلَّ علينا فضيلته أستاذاً لمقرَّر الصَّرف، وقد حصل لي به لقاء قبل هذا إذ التقيت به في لجنة مقابلة المتقدِّمين لبرنامج الدِّراسات العليا، أقول بعد طولٍ من مرآي إيَّاه في الكليَّة عند الدَّرج الرَّئيس ها هو من جديد والمشهد هو المشهد والصُّورة هي الصُّورة، والانطباع عنه هو الانطباع.. إجلال وتقدير، واحترام وتبجيل، وأنا حينئذٍ الآن عن قربٍ ووجهاً لوجهٍ، وكنَّا نقرأ في الصَّرف من مصادر الصَّرف في جليل كتبه وعميقها: (كتاب سيبويه/ المنصف لابن جنِّي/ شرح الشَّافية لرضي الدِّين)، فنشرع في القراءة من كتاب سيبويه، وكان يبحر فيه ويجلِّي وجه الكلام، ويوقفنا على معانٍ خافيات، وأحكام غامضات يتدسَّس إليها بثاقب فكره، تتكشَّف له بساطع نظره، وسيبويه يُلمع إليها إلماعاً، ويومئ إليها إيماءً، ولا يدركها أو يتفطَّنها إلاَّ أحوذيٌّ سبر الكتاب وخبره، وفَقِه النَّحو واستحضره، فكانت محاضراته مجالس ماتعاتٍ ملأى بالعلم والأدب والقيم والأخلاق عموماً، وأخلاق البحث خصوصاً، وكلِّف مرَّةً بتدريس مقرَّرٍ لطلاب الدِّراسات العليا هو البحث العلميُّ ومناهجه، ولم يكن له كتاب مقرَّر فاجتهد فضيلته في جمع مادَّته من عديدٍ من المصادر أجنبيَّة وعربيَّة، هذا فوق تضلُّعه هو بالبحث العلميِّ، ولو قُدِّر أن استمرَّ بتدريس هذا المقرَّر في غير تلك السَّنة لكان ما جَهِد فيه فضيلته مرجعاً لهذا المقرَّر؛ لأنَّ ما يجهد فيه يكون في غاية النَّفاسة والإتقان ولكن خسر القسم من جديدٍ مرجعاً أوشك ظهوره أو كاد. وممَّا يمتاز به فضيلته أنَّه يستند في كلامه وأحكامه على الأصولٍ الكبرى وإلى القواعد الكليَّة فيبني عليها حكمه عند افتقار الأدلَّة أو اشتجارها في مسألة ما، واتِّشاحها بالموهمات. وأذكر أنَّي فاصحته بأنَّ (طَوال) أصحُّ من (طيلة)، فقال: إنَّ العرب تنحو إلى الياء غالباً وتستدفع الواو وتستثقلها، ومثل ذلك (رئيسيٌّ) يذكر فضيلته بأنَّ اليَّاء المشدَّدة ليست للنَّسب، بل هي مثل (دوَّاريٍّ، وأحمريٍّ) ياء تُزاد للتَّوكيد لا للنَّسب. وفي مجلس استراحة القسم وقد حضرتُه جرى حديثٌ عن (فعولة) وصفٍ لمذكَّرٍ به تاءٌ مؤنَّثة، فابتدر المجلس بحديث في ذلك، وشرع يذكر ما للعرب من ذلك، فذكر في ذلك (صرورة، وملولة)، وقد كنتُ على علم بالمسألة لا ذكاءً مني أو من سعة إحاطة بل لأنَّي قريب العهد بالمسألة، فقد كانت إحدى المسائل الَّتي درستها في رسالتي للدُّكتوراه، وكنتُ حينها ما زلت أكتب في رسالتي، فاستمعت إلى عجبٍ من عرضِ الشَّيخ لمسألةٍ دقيقةٍ واستحضارهيها. وهذه سمة من سمات شيخنا الأجلِّ أ.د. تركي بن سهوٍ العتيبيِّ حفظة الله ومتَّعه بالصِّحَّة. ومن صفاته وسماته إدراكه وفقهه لما في كتب المتقدِّمين كسيبويه ومعاصريه من الكلام على لغات العرب القليلة والنَّادرة، فهو يتصوَّرها تصوراً تامًّا صرفيًّا وصوتيًّا، ويتمثَّلها بلسانه تبليغاً لسامعيه ولطلاَّبه، فليس المكتوب كالمسموع، فالتَّطبيق يختلف عن التَّنظير والرَّصد وإن جُهد في وصفه وضبطه، ويزيد على ذلك بأن يذكر أنَّ ذلك نطق القبيلة الفلانيَّة وذاك نطق البلدة الفلانيَّة، وهكذا دواليك، بلا ريبٍ فهو ابن الجزيرة العربيَّة عرف نجدها وشمالها وجنوبها. هو رجل موسوعيٌّ يحدِّثك في تخصُّصه (النَّحو والصَّرف) فيدهشك دقَّةً وسرعة استحضار، وتعجب منه أيضاً في غير تخصُّصه فقد أوتي بسطة في العلم، فإن تكلَّم في الفقه والشَّريعة بهرك، وإن في غيرها أعجبك وراعك، فهو حاضر المعرفة بسيط العلم، وإن انتقل إلى الأنظمة فإذا هو كبير خبير فيها بل في دقائقها، ولذا عمل مستشاراً في الأنظمة لبعض الوزارات وما يرتبط بها من أمور. وممَّا أغتبط به وأفتخر أن كان لي فضيلته مرشداً علميًّا في مرحلة (الماجستير) قبل تسجيل موضوع البحث، وقد أشار عليَّ بقراءة كتاب (خزانة الأدب) للبغداديِّ أكثر من مرَّة قراءة تبصُّر وفحصٍ، بل لقد جهدت في كتابة أطرافٍ لكتاب الخزانة بلغت به المجلد (9) وتوقَّفت لسببٍ سيأتي، ورغب فضيلته بعد القراءة في أن أنظر بمَ أخرج منها، وقد سرت وَفق ما أراد، ودوَّنت في حواشي الخزانة ما دوَّنته، وأفردت كشكولاً أكتب فيه الفكرة تلو الفكرة ممَّا أقف عليه في هذه المعلمة النَّحويَّة اللغويَّة الأدبيَّة للبغداديِّ، وخرجت من ذلك بأمور كثيرة وفوائد عديدة، فهو بحقٍّ معلمة للِّسان أكبرت فيها البغداديَّ - رحمه الله - وعلمت أنَّه علاَّمة مطَّلع كبير القدر جليل المكانة، وليس جمَّاعة كما يقول عنه مَن لم يعمل فيه ناظرته أو راعفته، بل هي تهمة كتهمة السُّيوطيِّ، على أنَّ الجمع أحد أنواع التَّأليف السَّبعة، فليسا هما بمسجِّلين وناسخين لا وعي لهما ولا فائدة من جهدهما، ولا مكسب من جمعهما إن كان جهدهما جمعاً خالصاً فحسب. وممَّا خرجت به من قراءتِيه أنَّي عزمت على تسجيل موضوع عن (حروف المعاني في الخزانة) معانيها مبانيها علاقتها بأبواب النَّحو وجديد الأحكام فيها ولاسيما والبغداديُّ نقل كلام علماء من كتب هي في عداد المفقود غير أنَّ قسمنا قسم النَّحو والصَّرف وفقه اللغة بمجلسه الموقَّر أعرض عن الموضوع وصدف عنه، وأن لا جديد عند البغداديِّ في هذا، وأنَّ البغداديَّ جمَّاعة كما قال لي أحد أعضاء مجلس القسم، وبعد لأيٍ ونزع وجذب من مرشدي - حفظه الله - للمجلس طُلب تقرير موضِّح لذلك، فلمَّا أبلغني جهدت وكتبت شرحاً وتوضيحاً جاوز (80) ثمانين صفحة، وعندما رآه فضيلته قال: ما هذا؟ قلت: التَّقرير المطلوب، فقال لي: المطلوب لا يتجاوز ثلاث صفحاتٍ، وما معك الآن هي رسالة (ماجستير) في بعض الجامعات، فذهبت أختصر وأختصر وما ظننتُه يريد ما قاله بلفظه، فقدمته له من جديد (20) عشرين صفحة فامتنع من أخذه، وقال: التَّقرير لا يتجاوز (1700) كلمة، فعلمت أنَّه عنَى ما قاله بلفظه أوَّل ما قال، ولكن كيف يكون ما في (80) صفحة في (1700) كلمة؟! فقال: يمكن ذلك، وهذا هو البراعة في اليراعة، وهو عين العلم، فتعرف المهمَّ والأهمَّ وما يذكر وما يحذف، فذهبت أختصر المختصر، وأعتصر المعتصر حتَّى كان في ورقتين كما طلب، ودُفِع لمجلس القسم لكنَّه عاد منه بالرَّفض من جديدٍ بأن لا جديد في حروف المعاني، بل الأمر سيكون من التَّكرار الَّذي لا فائدة منه للباحث ولا عائدة ولا ثمرة كذا قالوا. هذا هو سبب توقّفي بعد انتهائي من المجلَّد (9) من الخزانة لمَّا كنت أكتبه من جردٍ وقيدٍ لأطراف كتاب (خزانة الأدب)، ثُمَّ يسَّر الله لي موضوعاً آخر إذ سجَّلت موضوعاً عن تفسير مكيٍّ القيسيِّ (الهداية إلى بلوغ النِّهاية). وأختتم مفاخِراً بأنَّ فضيلته رئيس تحرير مجلَّة عريقة هي (مجلَّة الدِّراسات اللغويَّة) الصَّادرة عن مركز الملك فيصل للبحوث والدِّراسات الإسلاميَّة، وقد حقَّقت هذه المجلَّة برئاسته في العام (2018م) المركز الأوَّل من بين (4000) مجلَّة عربيَّة متخصِّصة وَفقاً لمعايير التَّأثير والاستشهاد العربيِّ (أرسيف)، الَّذي يُعدُّ المقياس الأوَّل من نوعه للمنتج العربيِّ وَفق المعايير العالميَّة، فجاءت (مجلَّة الدِّراسات اللغويَّة) متفوِّقة على جميع المجلاَّت العلميَّة اللغويَّة الجامعيَّة، وغيرها كمجلاَّت المجامع اللغة العربيَّة والمراكز اللغويَّة. متَّع الله أستاذ الأساتيذ: أ.د. تركي بن سهوٍ العتيبيَّ بالصَّحة والعافية، وعجَّل لأهل العربيَّة إنجاز ما يجهد فيه ويسَّر ظهوره ونشره، وأمتعنا الله وذويه وطلاب العلم بمهجته ومحيَّاه، ويسَّر له كلَّ عسير، وبارك له في عمله وعمره، وجزاه الله خيراً لقاء ما قدَّم في سني عمره للعلم ولطلبته، جزاه الله خير ما يجزي العلماء المخلصين والأساتذة النَّاصحين. والحمد لله ربِّ العالمين. ** ** د. فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح - كلِّيَّة اللغة العربيَّة/ جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة
مشاركة :