أحياناً تُفرض على الشعوب معارك تخوضها الدول حرباً أو سلماً، النصر فيها تحسمه الإرادة الصلبة، وعدالة القضية، وقوة الحجة وسلامة المنطق، وقبل كل هذا هو النجاح في إدارة الأزمة بحكمة ووعي ورشد، تزخر كتب التاريخ القديم والحديث بصور عديدة من الخلافات التي حسمتها الجيوش، وأخرى كثيرة حسمتها المفاوضات، الأزمة الراهنة بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى مرشحة للانفلات بسبب تعنت إثيوبيا وإصرارها على الاستئثار بمياه النيل وحرمان دولتي المصب مصر والسودان من حصتهما المائية التاريخية في خرق سافر للقوانين الدولية، وتحد وعناد بالغ يتجاوز كل الأعراف وقيم التعايش التي تراكمت على ضفاف النهر بين الشعوب الثلاثة عبر التاريخ. لم يتبق في قصة سد النهضة الإثيوبي سوى السطر الأخير الذي قد يثير الألم، أو يجسد الأمل في نفوس شعب النيل، المصريون يستمدون منه أسباب الحياة، يروي الظمأ، يسقي الزرع، يخرج من بطنه الطيبات من الرزق، ويحمل في طميه الرخاء والخصب والنماء. قصة مصر مع النيل أسطورة ممتدة عبر الزمن، حكايات ترويها كتب التاريخ، ومرويات لا تخلو منها الكتب، فعلى ضفاف النهر بنى المصريون حضاراتهم الإنسانية المتعاقبة، لقد ارتبط اسم مصر عبر التاريخ بنهر النيل، رغم أن النهر الأطول في العالم يمر بإحدى عشرة دولة إفريقية لن تصادف أو تجد من يحصيها سوى قلة نادرة من الباحثين والمتخصصين. أنا لست مع المؤرخ الإغريقي هيرودوت صاحب مقولة مصر هبة النيل، من وجهة نظري الأصح والأسلم والأوقع أن النيل هو هبة السماء لمصر، فمن المؤكد علمياً أن مصر موجودة قبل النهر الذي نحت مجراه وشق طريقه الحالي من المنبع إلى المصب قبل 30 مليون سنة في جغرافية منحدرة قائمة وموجودة كان يعيش عليها الإنسان المصري البدائي الأول في ذاك الزمن البعيد الموغل في القدم الذي اتسم بالقصور المعرفي باستثناء ما سجله الفراعنة على جدران المعابد القديمة، في الوقت الذي كانت فيه أراضي الحبشة قبل أن يسكنها السودانيون منذ ستة ملايين سنة مجرد أدغال وغابات تعيش فيها القرود، وتمرح فيها الوحوش الكاسرة. النيل في مصر ليس مجرد شريان مائي كما يصفه الجغرافيون، بل هو بالتأكيد شريان للحياة، هو الحبل السُّري الذي يربط المصريون بأرضهم، ويهب أجيالهم المتعاقبة القدرة على التكاثر والعيش والتنفس، فمصر والنيل متلازمة كونية (بمعناها الإيجابي) لا تنفصل، وأن ما وهبه الله لمصر (كما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي) لا يمكن لبشر أن يمنعه، وأنا ممن يثقون تماماً في النهج الذي تتبناه الحكومة المصرية في إدارة أزمة قضية سد النهضة الذي يمثل بقاؤه خطرًا وجودياً آنياً ومستقبلياً. الرئيس عبد الفتاح السيسي من جانبه يدير الأزمة (متسلحاً بدعم شعبي وعربي ودولي هائل) بهدوء وحكمة وصبر وأناة بعد أن رسم خطوطاً حمراء فاصلة واضحة المعالم للأمن المائي المصري والعربي، هو يدرك تماماً أن لدينا في مصر في العصر الحديث نموذجين لإدارة أزمات تتعلق بالأمن القومي المصري، الأولى أودت بنا إلى نكسة 1967 التي لا زلنا نعاني مصرياً وعربياً من آثارها وويلاتها رغم مضي أكثر من خمسين عاماً عليها لأنها اعتمدت على الشعبوية الفارغة، وتصدير الانتصارات الوهمية، وبث الأكاذيب للرأي العام الذي كان مغيباً، ولا يعرف في الشارع ماذا دار في الشارع!، فما بالنا هل كان له أن يعرف ماذا دار في المعركة في تلك الفترة المعتمة من تاريخ مصر!، والنموذج الآخر الناصع إدارة حرب أكتوبر بحنكة واقتدار ووعي كامل بمصالح الأمة فاستُردتْ الأرض حرباً وسلاماً. مصر الدولة تدرك الآن أنها أمام أزمة حقيقية قادرة على اجتيازها بحكمة القائد ووعي الشعب وتلاحمه الاستثنائي والتفافه حول قيادته ثقة بها ووعيًا منها بضرورات المرحلة وحتمية استمرارية وصيرورة جريان نهر النيل في ربوع مصر شاقاً طريقه من الصعيد إلى الوادي ينثر الخير، ويزرع الأمل المتجدد، تمتزج قطرات مياهه بخلايا ودماء المصريين لتنتج أجيالاً قادرة على حمايته، ومواجهة التحديات التي تواجهه من المنبع إلى المصب على طول المسافة التي تسيح فيها الجغرافية لتشكل أمناً مصرياً قومياً خالصاً ليس بوسع أحد تجاهله، أو التفريط فيه، أو التغافل عنه، أو الانتقاص منه، مصر مع أمتها العربية قادرة على تجاوز كل التحديات الراهنة والمستجدة. ** ** - مدير مكتب مؤسسة روز اليوسف الصحفية بالمملكة
مشاركة :